حفل تخرج  2025.. طقوس علمية لبداية جديدة

في آخر صفٍّ من مدرجات ملعب الأول بارك، جلست "نورة" تحدق في المعطف الأبيض المطوي بعناية فوق حجرها. كانت يداها ترتجفان قليلًا، لا من الخوف، بل من ثقل اللحظة التي انتظرتها سنوات أثناء فترة تدريبها في برنامج الإقامة التابع لهيئة التخصصات الصحية

 

حولها، كان زملاؤها يتهامسون بحماس، يلتقطون الصور، ويستعيدون ذكريات الليالي الطويلة في معامل المهارات السريرية، وانشغالهم بأول مريض قابلوه في فترة التدريب 

 

لكن صوتًا داخليًا خافتًا كان يقول لها: "اليوم لستِ متدربة في البرنامج، اليوم تبدأ الحكاية الحقيقية" ، عندما انطفأت الأضواء في ملعب الأول بارك وبدأت موسيقى الدخول في الحفل، أدت نورة أداء القَسَم، حينها وحينها فقط شعرت نوره بأنها في طقس عبور من عالمٍ إلى آخر

 

 

شهد قطاع التعليم الصحي في المملكة العربية السعودية خلال العقد الأخير تحولات جذرية ظهرت في تطوير غير مسبوق، وفي خضم هذا التحول يأتي حفل تخرج خريجي برامج الهيئة السعودية للتخصصات الصحية؛ ليصبح أكثر من مجرد طقوس أكاديمية تُختتم بها السنوات الدراسية

 

هذه الاحتفالات باتت جزءًا من مشهد وطني واسع، يجسد الاستثمار في رأس المال البشري، ويعكس رؤية المملكة الطموحة لتطوير القدرات الصحية، التي تستهدف رفع كثافة القوى العاملة الصحية، وتحسين جودة الخدمات، وتعزيز الابتكار في الرعاية الصحية

 

قلق الانتقال

من منظور علم النفس التربوي، يرى علماء مثل ديميتريس إيغالاتاس، وهو أستاذ مشارك في الأنثروبولوجيا والعلوم النفسية بجامعة كونيتيكِت الأميركية، أن حفل التخرج يُعدُّ "طقس عبور" يسهم في تخفيف قلق الانتقال من البيئة التعليمية والتدريبية إلى بيئة العمل الواقعية

 

تتضمن طقوس العبور عادةً وجود عدة مراحل، تبدأ بانفصال المشاركين عن نمط حياتهم السابق، والتوجه نحو وضع وهُوِيَّة جديدة. الممارسون الصحيون، بخلاف التخصصات الأخرى، يحققون انتقالًا دراميًا في الحقيقة، بين عالم كانوا فيه تحت التدريب، مليء بالأنشطة التعليمية، إلى عالم مهني عالي المسؤولية، يتعاملون فيه مباشرة مع حياة الإنسان وصحته

 

في العلوم الصحية، يُعدُّ التخرج إعلانًا عن انتهاء "مرحلة المعرفة" وبداية "مرحلة الممارسة"، حيث يصبح الخريج مسؤولًا عن تطبيق المعرفة السريرية في سياقات حقيقية، يتحمل فيها المسؤولية بوصفه ممارسًا صحيًا مسؤولًا، لا كمتدرب

 

لذلك، فإن الطقوس الرمزية؛ مثل أداء قسم المهنة، كلها تُشكِّل أدوات لتعزيز فكرة الانتقال هذه، كما أنها تعزز الكفاءة الذاتية والثقة لدى الخريج، وتسهّل اندماجه النفسي في دوره المهني الجديد

 

بشكل خاص، تمثل لحظة "أداء القَسَم" في حفل تخرج متدربي برامج الهيئة السعودية للتخصصات الصحية نقطة مفصلية في هذا الانتقال؛ إذ توضح حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الخريجين، وتعرّفهم بسرية المريض، والعدالة الصحية، والإخلاص، والرحمة، واحترام العلم والأدلة، والالتزام بالسلوك المهني الرشيد

 

الصوت الهادر في أثناء إلقاء كل جملة من جمل القَسَم، وثقل الجمل نفسها والمسؤولية التي تحملها، والصمت الساكن الذي يتخلل تلك الجمل، يترك أثرا نفسيًا كبيرًا، يعلمهم بيسر أننا نقف الآن على الباب بين عالمين مختلفين تمامًا، لكل منهما متطلباته، لكنهما مثيران للانتباه بالقدر نفسه، وكلاهما باب للتعلم

 

 

التخرُّج كخطاب عام

في هذا السياق، أصبحت حفلات التخرج في القطاع الصحي في السعودية ظاهرة ثقافية تتجاوز كونها مجرد نهاية لمسار أكاديمي؛ إذ تُقام هذه الحفلات على مستوى تنظيمي وإعلامي رفيع يشبه الفعاليات الوطنية التي تُحتفى فيها الإنجازات العلمية بوصفها جزءًا من مسيرة التنمية

 

أصبح تصوير الحفل وبثّه عبر القنوات الإخبارية والمنصات الرقمية جزءًا أساسيًا من المشهد، الأمر الذي ضاعف من تأثيره الاجتماعي، وجعل الحضور يتجاوز نطاق الطلاب وأسرهم ليشمل المجتمع بأكمله. وتمنح رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله ورعاه – للحفل رونقًا خاصًا، فيما تُظهر مشاركة مسؤولين من وزارتي الصحة والتعليم، إلى جانب حضور شخصيات من الهيئات المختلفة، حجم الاعتراف الرسمي المتزايد بأهمية الكوادر الصحية ودورها في بناء مستقبل القطاع ضمن رحلة التحول الصحي الضخم

 

لذلك، يحمل الخطاب الرسمي في حفلات التخرج الصحية بُعدًا دلاليًا مهمًا، إذ تعكس الكلمات التي يلقيها الخريجيون والقيادات الصحية مجموعة من المفاهيم الراسخة التي تهدف إلى تشكيل هُوِيَّة مهنية وطنية مشتركة

 

فعند تحليل خطابات حفل التخرج، يمكن ملاحظة حضور واضح ومتكرر لمفاهيم مثل الإنسانية، والخدمة، والانتماء، والمسؤولية، والابتكار، والرؤية المستقبلية

 

وبذلك يصبح الخطابات التي تُلقى في حفل التخرج أكثر من مجرد كلمات احتفالية، بل هو "خطاب عام "يسعى إلى بناء تصور مشترك عن هُوِيَّة الممارس الصحي السعودي، وتحديد دوره في نهضة المجتمع، وصناعة مستقبل النظام الصحي

 

في هذا السياق، يؤدي الإعلام السعودي، التقليدي والرقمي، دورًا حاسمًا في إعادة تشكيل مكانة المهن الصحية؛ إذ تسهم التغطيات الصحفية والفيديوهات واللقطات المنتشرة في بناء الصورة الذهنية الجديدة للممارس الصحي على مستوى الدولة بالكامل

 

 

لماذا حفل واحد لكل التخصصات؟

ويأتي حفل تخرج برامج الهيئة السعودية للتخصصات الصحية السنوية ليجمع المتدربين من مختلف القطاعات الصحية في مكان واحد. ولا يقتصر هذا الدمج على الجانب التنظيمي فحسب، بل يحمل أبعادًا علميةً ومهنيةً وثقافيةً تمنح الحفل الموحَّد قيمة أكبر مقارنة بإقامة حفلات منفصلة لكل تخصص

 

القطاع الصحي ليس مجموعة مهن منفصلة، بل منظومة مترابطة، تتطلب تعاونًا معقدًا، ويحتاج من الخريجين التواصل والتنسيق، واحترام الأدوار، والعمل بروح الفريق

 

وحين يجتمع جميع الخريجين في مكان واحد تتجسد فكرة الفريق الصحي التي تقوم عليها الرعاية الصحية الحديثة؛ حيث تتعزز الهوية المشتركة التي تربط الطبيب والممرض وطبيب الأسنان والصيدلي وخبراء العلوم الصحية التطبيقية والفنيين بوصفهم "شركاء" في رعاية المريض، لا فئات متباعدة

 

في هذا السياق، يشعر الخريجون بالانتماء إلى منظومة واحدة؛ مما يقلل من الحواجز التقليدية بين المهن الصحية

 

العمل الصحي المعاصر قائم على الطب متعدد التخصصات، وإقامة حفل موحَّد تذكِّر الخريجين بأن مستقبل عملهم يعتمد على التعاون لا الفردية، وتعكس في الوقت نفسه روح التدريب السريري الذي يجمعهم أساسًا في بيئة واحدة، مقدمة صورة واقعية عن طبيعة القطاع الصحي الذي سيعملون فيه

 

وبذلك يتحول الحفل نفسه إلى درس مهني في كيفية التعايش داخل منظومة صحية شامل

 

 

 

السعودية ورأس المال البشري الصحي

ولذلك، تكتسب حفلات التخرج الصحية في المملكة العربية السعودية بعدًا رمزيًا يتجاوز الاحتفاء الشخصي، لتصبح مؤشرًا بصريًا على مستوى التقدم الذي يحققه القطاع الصحي ضمن رؤية 2030، فظهور دفعات جديدة من الخريجين السعوديين يمثل خطوة عملية نحو رفع نسبة القوى العاملة الوطنية في القطاع الصحي، وهي من أهم أولويات الرؤية

 

 

 

كل خريج يقف على منصة الحفل يمثِّل تقدمًا حقيقيًا نحو تعزيز الأمن الصحي الوطني، وتمثل كل دفعة جديدة من الخريجين تمثل "رصيدًا جديدًا" في رأس المال البشري الصحي، يعكس نجاح مشاريع التوسع في التعليم الصحي، وتطور في البنية التحتية الصحية في مختلف مناطق البلاد

 

وبذلك، تتجاوز رمزية الحفل حدود المكان لتصبح جزءًا من سردية وطنية أوسع، تؤكد أن التعليم الصحي ليس مجرد مسار أكاديمي، بل رافعة أساسية لتحقيق مستقبل صحي أكثر استدامة وفاعلية في المملكة