لم تُظهر هاجر القايدي في طفولتها ميلاً واضحًا نحو مهنة بعينها. كانت القراءة، لا سيما في الشعر والروايات، غذاءها اليومي، حبًا في الاكتشاف، وانفتاحًا على احتمالات الذات
لقد نشأت هاجر في بيئة تميل إلى الحذر، حيث الخيارات أمام النساء محدودة، والمستقبل كثيرًا ما يُصاغ مسبقًا من قِبل المجتمع لا الفرد. لذا، وبدافع من حكمة خفية، تبنّت في سنواتها الأولى في جامعة الملك عبدالعزيز موقفًا وجوديًا بسيطًا: أن تكتفي بالحاضر، وتصادق اللحظة، دون أن ترهق نفسها بأسئلة المصير
لم يكن هذا كسلًا ذهنيًا، بل موقفًا فلسفيًا في متعة السير مع التيار، لا استسلامًا بل تمرينًا على الإدراك
عندما لاحت فرصة الابتعاث إلى بريطانيا، بدأت هاجر تشعر أن هناك علماً يُشبهها. في لندن، درست علم النفس، ثم تخصصت في علم نفس العمل
نأخذكم معها في هذا الحوار لتضع حتى يتسنى لنا أن نأخذ منها النصائح في عملية اختيار التخصص والمهنة الصحية المناسبة لشخصيتنا ومهاراتنا
كيف تصفين تجربتك في بريطانيا؟
كانت تجربة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"التحول الذهني". لم أدرس فحسب، بل مارست التفكير المنهجي. في لندن، حيث درست علم نفس العمل،.كنا نُعطى تجارب نفسية من شركات متخصصة ونُكلّف بتحليلها وكتابة تقارير عنها أسبوعيًا
لم تكن الجامعة مجرد مؤسسة تمنح شهادات، بل كانت مكانًا يُهيئ العقول للاستقلال. كنا نُدرَّب على أدوات وصف العمل، تقييم التوافق المهني، وتحليل بيئة العمل، وفهم السلوك التنظيمي، بل وتقييم الاختبارات النفسية وفق مناهج السايكومترية. كان الهدف أن نمارس لا أن نحفظ، أن نكون صانعي أدوات لا مستهلكيها فقط. حصلت على رخصة من الجمعية النفسية البريطانية لتقييم الاختبارات، وهي صلاحية تتطلب تجديدًا سنويًا وتُعد بوابة للتمكن المهني في المجال
ماذا حدث بعد عودتك إلى السعودية؟
عملت في جامعة عفت، ثم في مركز الاستشارات الأسرية بجامعة الأميرة نورة، حيث كنت مسؤولة عن التدريب والتطوير. لكن لحظة التحول لم تكن مهنية بقدر ما كانت وجودية، حين التحقت بدورة ريادة الأعمال في مركز الملك سلمان للشباب
هناك، التقيت بعالم آخر، حيث الفكرة يمكن أن تتحول إلى شركة، والطموح لا ينتظر موافقة أحد. أسست شركتي "استنار للاستشارات"، وبدأت بموقع إلكتروني بسيط يحتوي على الأدوات المعتمدة لعلم نفس العمل. قدمت استقالتي وتفرغت تمامًا لهذا المسار، لم تكن مغامرة، بل قناعة نضجت
لو أن شخصًا أراد مساعدته في تحديد التخصص، كيف تتم هذه العملية؟
في البداية، يجب أن نبدأ معه في رسم خريطة القيم الشخصية، وهو تمرين في فهم الذات، وقيم الشخص ومحفزاته. ثم نُجري تقييمًا عامًا لما يمكن تسميته بـ"بوصلة الشخصية". بعد ذلك، نفتح حوارًا صريحًا مع الشخص، ونناقش معه بالتفصيل نتائج الاختبارات الشخصية التي أُجريت
وأخيرًا، نستخدم أداة لقياس عوامل تعطل اتخاذ القرار، مثل ضغوط الأسرة أو التشويش بين التوقعات الخارجية والميول الذاتية
ما المقصود بعوامل تعطل اتخاذ القرار؟
تخيّل شابًا أو فتاة في عائلة كبيرة وهم آخر العنقود، الكل يتدخل في مستقبله: أخ، أم، أب، عمّ... تذوب رغبته في رغبات الآخرين، حتى يفقد صوته. يجب أن نساعده على استعادة ذلك الصوت، على تمييز ما يُريده هو عمّا يُراد له. هناك اختبارات متخصصة لقياس مثل هذه العوامل المعطلة
باختصار، ما أهم خطوات اختيار التخصص من وجهة نظرك، وبشكل مبسط؟
أن تسأل نفسك: ما هي المواد والأشياء التي يمر الوقت فيها دون أن تشعر؟ أي أنك تحبها بعمق
أن تبحث عن حاجة السوق من التخصصات، أي دراسة السوق بالأرقام والحاجات المستقبلية
أن تقرأ الخطة الدراسية للتخصص بشكل مفصل
أن تراجع الوصف الوظيفي المحتمل للوظائف
أن تبحث عن الجامعات المتاحة التي تُضيف لا التي تستهلك وقتك، والتي تقدم تدريبًا جيدًا
أن تسأل أهل التخصص، لا كمجرد فضول، بل كمن يتقصّى مصيره. هناك الكثير من أهل التخصص من المؤثرين في الشبكات الاجتماعية، وبالإمكان سؤالهم عن تحديات المهنة والأشياء الجميلة التي تحملها
هل يمكن أن يؤدي التخصص الخاطئ إلى الاحتراق؟
بالطبع، وأقول هذا لا بوصفه رأيًا، بل ملاحظة متكررة. كثيرون يُصابون بانهيارات، هلع، فقدان معنى، لأنهم دخلوا تخصصًا لا يُشبههم. وأحيانًا، كل ما يحتاجونه هو مرشد مهني صادق، لا يملي عليهم بل يُضيء لهم
ماذا عن التخصصات النادرة ؟ أو التخصصات غير الموجودة في المملكة؟
إن لم تجد ما يُشبهك في السعودية، فابحث في كوريا، أمريكا، إيطاليا... لِمَ لا؟ العالم واسع، والتخصصات أكثر تنوعًا مما نتصور. احذر فقط من الأساطير المهنية: "هذا للرجال"، "هذا ما له مستقبل"، "هذا ما يحترمه أحد". لا تُضحّ بشغفك من أجل انطباع الآخرين
وماذا عن التخصصات الصحية، هل تتطلب صفات بعينها؟
لا توجد قاعدة حتمية. لكن من لديه حساسية نفسية عالية قد لا يتحمل الطوارئ أو الطب النفسي. المهن الطبية بشكل عام تحتاج تعاطفًا ولكن أيضًا تحتاج إلى قدرة على الصلابة الذهنية
ما أهمية دراسة السوق في سياق اختيار التخصص المناسب؟
لا ينبغي فهم السوق كعدو للشغف، بل كمرآة للواقع. حين تسأل: ماذا تحتاج السعودية بعد عشر سنوات؟ فأنت لا تُجامل، بل تُمارس مسؤوليتك الفردية. المستقبل لا يُخمن، بل يُتوقع بناءً على وعي وتحليل
هل تؤمنين بتغيير المسار المهني؟
بالتأكيد. المهنة ليست قدرًا أبديًا. أحيانًا، نصل منتصف العمر المهني وندرك أننا بحاجة إلى شرارة جديدة. ذلك لا يُقلل منّا، بل يُعني أننا أحياء فكريًا
ما الكتب التي توصي بها للأشخاص الذين في حيرة في اختيار التخصص المناسب لهم؟
هناك عدة كتب مثل : ما لون منطادك؟، وكتاب شغفك سوف يأكلك، وكتاب قلق السعي إلى المكانة
هل هناك أدوات علمية لتقييم التوافق بين الشخص والمهنة؟
نعم. نستخدم "شنطة أدوات" متخصصة لتحليل الشخصية، الوظيفة، والتوافق بينهما. أحيانًا، تكون هذه الأدوات أشبه بالخريطة التي تُنقذك حين تتوه في الغابة
أستاذة هاجر، نشكرك جزيل الشكر على هذا الحوار والرحلة التي شاركتِنا بها
الشكر موصول لكم