مقاومة المضادات الحيوية .. وعصر البكتيريا الخارقة

 

غالبًا ما توصف مقاومة المضادات الحيوية بأنها "الوباء الصامت"؛ لأنها تنتشر في سكون، وتُصعِّب علاج العدوى في المستشفيات

 

وبينما كان اكتشاف المضادات الحيوية في القرن العشرين من أعظم إنجازات الطب الحديث؛ حيث مكَّن الأطباء من إنقاذ ملايين الأرواح من أمراض كانت قاتلة، بدأت هذه الأدوية الثمينة تفقد قوتها شيئًا فشيئًا أمام عدو خفي يتطور بسرعة، وهو البكتيريا المقاومة

 

اليوم، يواجه الممارسون الصحيون في مختلف أنحاء العالم، تحديًا متزايدًا يتمثل في ارتفاع الحالات التي لا تستجيب فيها العدوى للمضادات الحيوية المعتادة. هذه ليست مجرد مشكلة علمية، بل تهديد حقيقي للممارسة الطبية اليومية؛ حيث يمكن أن تتحول عدوى بسيطة إلى حالة حرجة، وتطول مدة بقاء المرضى في المستشفيات، وتزداد التكاليف والمضاعفات

 

تحدث مقاومة المضادات الحيوية عندما تتكيف البكتيريا وتُطوِّر سلالات جديدة لم تعد تستجيب للأدوية التي كانت تقضي عليها. ببساطة، تصبح الجراثيم "أقوى" من الدواء

 

يحدث هذا عادةً عند إساءة استخدام المضادات الحيوية أو الإفراط في استخدامها. على سبيل المثال، تناولها دون استشارة الطبيب أو لأمراض فيروسية مثل نزلات البرد والإنفلونزا

 

نتيجةً لذلك، قد تصبح العدوى التي كانت سهلة العلاج في السابق صعبة أو حتى مستحيلة الشفاء. عالميًا، تُشكِّل العدوى المقاومة للمضادات الحيوية مصدر قلق بالغ، حيث تُسبب أكثر من 1.1 مليون حالة وفاة سنويًا، وقد ترتفع إلى مستويات كارثية (تصل إلى 10 ملايين حالة وفاة بحلول عام 2050) إذا لم تُتخذ أية إجراءات وقائية

 

 

 

 

 

 

انتشار مقلق

في المملكة العربية السعودية، تُعدُّ مقاومة المضادات الحيوية مشكلةً متفاقمةً تعكس التهديد العالمي، وتُظهر الدراسات من مستشفياتٍ في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية أن معدلات مقاومة عديد من البكتيريا في ارتفاعٍ مطرد

 

وأحد الدلائل الواضحة على هذه المشكلة هو الإفراط في استخدام المضادات الحيوية في الماضي. فحتى بضع سنواتٍ مضت، كان من الشائع شراء المضادات الحيوية دون وصفة طبية في المملكة، سواءً لعلاج أمراضٍ خفيفة أو دون استشارة طبية مناسبة، على عكس الوضع الآن، حيث هناك عقوبات مشددة على الصرف دون وصفة طبية

 

في الواقع، وجدت دراسة أجريت عام 2018 أن أموكسيسيلين-كلافولانات (مضاد حيوي واسع الطيف) كان ثاني أكثر الأدوية شيوعًا في المملكة (بعد مسكنات الألم)، مما يشير إلى كثرة استخدام المضادات الحيوية، وقد أسهمت ثقافة الإفراط في الاستخدام هذه في تطوير البكتيريا في المملكة العربية السعودية لمقاومتها بشكل أسرع

 

يتضح هذا التأثير في بيانات المستشفيات في المملكة، حيث تشكل البكتيريا العنقودية المقاومة للميثيسيلين، وهي شكل يصعب علاجه، النسبة الأعلى من حالات المقاومة

 

وفي دراسة سابقة بعام 2016 ظهر أن الوضع مقلق، فبعض المستشفيات وجدت أن نسبة كبيرة من البكتيريا أصبحت مقاومة لطيف واسع من المضادات الحيوية، بل إن بعض العينات لم تعد تستجيب لأي دواء معروف

 

 

استجابة المملكة

ولهذا السبب، شددت الجهات الصحية في المملكة ومنظمة الصحة العالمية على الضرورة الملحة للتحرك في هذا الملف كأولوية عاجلة. وقد أدركت الهيئات الصحية السعودية هذا التهديد، ووضعت خطة عمل وطنية تُركز على الترصد، والاستخدام المسؤول للمضادات الحيوية، والتوعية العامة بما يتماشى مع التوصيات العالمية لمنظمة الصحة العالمية

 

 

لقد بدأت رحلة المملكة في مكافحة مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية عام 2017، مع تشكيل اللجنة الوطنية استنادًا إلى الخطة العالمية التي وضعتها منظمة الصحة العالمية، لتكون إطارًا مشتركًا لمواجهة هذا التحدي الصحي

 

في أبريل 2018، اتخذت وزارة الصحة السعودية خطوةً مُهمةً بحظر بيع المضادات الحيوية دون وصفة طبية، وفرض عقوبات صارمة على الصيدليات التي تُخالف هذه القاعدة

 

أدت هذه السياسة إلى انخفاض كبير في استهلاك المضادات الحيوية على مستوى البلاد؛ حيث أظهرت الدراسات انخفاضًا بنسبة 30% تقريبًا في إجمالي استخدام المضادات الحيوية في السنوات التي تلت الحظر

 

ومنذ ذلك الحين، قادت هيئة الصحة العامة "وقاية" الجهود الوطنية بخطى ثابتة، مطلقةً التحديث الوطني للخطة للفترة 2020–2025، لتكرِّس موقعها كجهة مرجعية رائدة في هذا المجال

 

وفي نوفمبر 2024، تحولت مدينة جدة إلى مركز عالمي للنقاش حول ما بات يُعرف بـ "الوباء الصامت"، حين استضافت المملكة العربية السعودية المؤتمر الوزاري العالمي الرابع رفيع المستوى لمقاومة المضادات الميكروبية، وهو أحد أهم الاجتماعات الدولية التي تُعنى بمستقبل الصحة العامة في العالم

 

جاء انعقاد المؤتمر بمشاركة وزراء الصحة والزراعة والبيئة من عشرات الدول، إلى جانب منظمات كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة الحيوانية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، في حدث يعكس إدراكًا متزايدًا بأن أزمة مقاومة المضادات لم تعد شأنًا طبيًا فحسب، بل خطرًا وجوديًا يمتد إلى الإنسان والحيوان والبيئة معًا

 

خلال المؤتمر، تبنَّت السعودية وعدد من الدول ما سُمِّي بـ "التزامات جدة"، وهي حزمة من المبادرات لتطبيق نهج "صحة واحدة" يربط الإنسان والحيوان والبيئة في منظومة مراقبة واستجابة موحدة. هذا النهج يُعد حجر الأساس في محاربة مقاومة المضادات؛ لأنه يعترف بأن العدوى لا تعرف الحدود، وأن المزرعة والمستشفى والمجتمع حلقات في سلسلة واحدة. كما دعا المؤتمر إلى تعزيز البحث العلمي والابتكار لتطوير أدوات تشخيص سريعة وأدوية جديدة، مع الاستثمار في التوعية المجتمعية والحوكمة الرشيدة لاستخدام المضادات

 

تميزت الجلسات العلمية في جدة بطرح أرقام صادمة: فبحسب البيانات التي نوقشت، أكثر من 50% من المضادات الحيوية في بعض الدول تُصرف دون وصفة طبية، بينما تُستخدم كمنشطات للنمو في الثروة الحيوانية؛ مما يخلق بيئة خصبة لتكاثر "البكتيريا الخارقة". وحذَّر الخبراء من أن استمرار هذا النمط قد يؤدي إلى أزمة صحية عالمية تفوق في أثرها أية جائحة معاصرة، لأنها ستقوِّض ثقة البشر في الطب الحديث ذاته

 

ومن المتوقع أن يُسهم هذا الانخفاض في الاستخدام، مع مرور الوقت، في إبطاء تطور المقاومة. بالإضافة إلى ذلك، بدأت عديد من المستشفيات برامج إدارة مضادات الميكروبات، وهي فرق وبروتوكولات تضمن استخدام المضادات الحيوية فقط عند الحاجة الماسة وبالطريقة الصحيحة

 

تُظهر التجارب الوطنية أن برامج إدارة مضادات الميكروبات التي يقودها الممارسون الصحيون داخل المستشفيات لها أثر مباشر في ترشيد استخدام المضادات الحيوية، وهو ما ينعكس بوضوح على تراجع معدلات المقاومة وتقليل الحاجة للجوء إلى المضادات الحيوية القوية التي تُعد خط العلاج الأخير مثل دواء الكولستين

 

وقد أثبتت البيانات المنشورة في الدوريات العلمية المحكمة أن تطبيق هذه البرامج يؤدي إلى خفض ملحوظ في استخدام هذه الأدوية عالية الخطورة، مقرونًا بانخفاض كبير في معدلات المقاومة المرتبطة بها

 

يُعدُّ هذا تذكيرًا قويًا بأنه من خلال الممارسات الصحيحة، يُمكن إبطاء اتجاه تزايد المقاومة أو حتى عكس مساره

 

ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات؛ حيث لا تزال البكتيريا المقاومة منتشرة على نطاق واسع في كل من المجتمعات المحلية والمستشفيات، هذا يحتاج مزيد من الضبط، وإلا فإن ما أنجز إلى الآن قد يتراجع بسرعة وشراسة

 

 إن مقاومة المضادات الحيوية في المملكة العربية السعودية تُمثل مشكلة، ولكنها ليست مستعصية على الحل، وقد بدأت بعض الحلول تؤتي نتائج إيجابية

 

 

 

دور الممارس الصحي 

بالنسبة للممارس الصحي في المملكة، يعد دوره بالغ الأهمية في مكافحة مقاومة المضادات الحيوية. فكل وصفة طبية وكل قرار للاستثمار في تبني مكافحة العدوى يمكن أن يُسهم في الحد من المقاومة

 

 

يجب ألا توصف المضادات الحيوية إلا عند الحاجة الفعلية، مع اتباع الإرشادات السريرية الحالية وبيانات الحساسية المحلية، ويجب تجنب إعطاء المضادات الحيوية للأمراض الفيروسية أو "للاحتياط"؛ فهذا يضمن لنا الاحتفاظ بالمضادات الحيوية حتى تصبح فعالة

 

 

 

 

كذلك، يجب توعية المرضى حول كيفية تناول المضادات الحيوية بشكل صحيح عند وصفها، ويشدِّد على أهمية إكمال الجرعة، وتناول الجرعة الصحيحة في الأوقات المناسبة، وعدم الاحتفاظ بالباقي لوقت لاحق

 

كما يجب التشديد على صرف المضاد حسب الجرعة المناسبة للحالة المرضية لضمان فعالية العلاج، وحماية المجتمع من تنامي الميكروبات

 

ويجب أن يُشجِّع الممارس الصحي على اتباع إجراءات بسيطة للوقاية من العدوى مع كل مريض. على سبيل المثال، تذكير المرضى (وعائلاتهم) بغسل اليدين بشكل متكرر، والعناية المناسبة بالجروح، والبقاء على اطلاع بأحدث التطعيمات، وغيرها من ممارسات النظافة؛ لتجنب العدوى في المقام الأول

 

كما يجب على العاملين في مجال الرعاية الصحية اتباع ممارسات صارمة لمكافحة العدوى في العيادات والمستشفيات، عبر غسل اليدين وتعقيمها قبل وبعد رؤية كل مريض أو التعامل مع الأجهزة الطبية، واستخدم معدات الوقاية الشخصية بشكل مناسب، وعزل المرضى عند الضرورة لمنع انتشار البكتيريا المقاومة، فمن خلال الوقاية من العدوى المكتسبة من المستشفيات، نحد من انتشار السلالات المقاومة

 

وإذا واجه الممارس الصحي عدوى لا تستجيب للمضادات الحيوية القياسية، فيجب أن يبلغ فريق مكافحة العدوى في المستشفى. إن الإبلاغ المبكر يساعد على مراقبة أنماط المقاومة والاستجابة السريعة لتفشيها، وتعد بيانات المراقبة والتي يشرف عليها أقسام مكافحة العدوى من هذا النوع حيوية لتحديث إرشادات العلاج وسياساته

 

كذلك يمكن للممارس الصحي أن يكون جزءًا فعالًا من برنامج الإشراف على مضادات الميكروبات في المستشفيات، قد يشمل ذلك المشاركة في المراجعات الدورية لوصفات المضادات الحيوية، ومراقبة الالتزام بالقيود الواردة في الوصفات الطبية، ومن خلال العمل كفريق واحد لتحسين استخدام المضادات الحيوية، شهدت المستشفيات في المملكة العربية السعودية بالفعل نتائج أفضل ومعدلات مقاومة أقل

 

باتباع هذه الخطوات، يمكن لممارسي الرعاية الصحية إحداث فرق حقيقي. والهدف في النهاية هو استخدام المضادات الحيوية بمسؤولية اليوم؛ لضمان فعاليتها غدًا، أو كما اتفق المشاركون في مؤتمر جدة العام الماضي: لنحمِ الدواء قبل أن نفقده

 

 

المصادر

 

منظمة الصحة العالمية ، "المؤتمر الوزاري العالمي رفيع المستوى الرابع بشأن مقاومة مضادات الميكروبات"، جدة، المملكة العربية السعودية، خلال الفترة من 14 إلى 16 نوفمبر 2024

 

 

"نظرة عامة على مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية في المملكة العربية السعودية (2013–2023) والحاجة إلى نظام ترصُّد وطني"، مجلة الكائنات الدقيقة، 2023

 

 

"مقاومة البكتيريا سالبة الغرام للمضادات الحيوية: دراسة طولية استمرت ست سنوات في أحد مستشفيات المملكة العربية السعودية"، مجلة العدوى وصحة المجتمع، 2020

 

 

"تقييم فاعلية سياسة وزارة الصحة السعودية للحد من صرف المضادات الحيوية على الاتجاهات الموسمية لاستهلاكها في المملكة (2016–2020)"، مجلة علم الأدوية

 

وزارة الصحة السعودية ، "مقاومة المضادات الحيوية"، منصة التوعية الصحية، 2024

 

 

"تعزيز الأمن الصحي العالمي من خلال السيطرة على مقاومة مضادات الميكروبات: دروس من المملكة العربية السعودية"، مجلة العدوى وصحة المجتمع، 2025