ملتقى الصحة العالمي .. الرياض تجمع الخبراء

يبرز ملتقى الصحة العالمي في الرياض كحدث فريد يجمع أكثر من 160 ألف متخصص وألف مستثمر و500 جهة عالمية من 20 دولة، مما يجعله مركزًا إستراتيجيًا لتبادل الرؤى حول الجيل القادم من الطب، ويتيح استعراض أحدث الابتكارات في مجالات الأجهزة الطبية، والصحة الرقمية، والمختبرات، والمستشفيات الذكية

 

كلمة الأمين العام: الاستثمار في الإنسان أولاً 

في الجلسة الافتتاحية في يوم الثلاثاء من 28 أكتوبر، كانت هناك كلمة للأمين العام للهيئة السعودية للتخصصات الصحية الدكتور أوس الشمسان، تحدث فيها من عدة محاور مهمة، على رأسها : الإنسان قبل التقنية، فالأنظمة الصحية لا تقوم على الأجهزة فقط، بل على العقول والمهارات والتعاطف، مشيرًا إلى أن كل لحظة تعليم داخل المستشفى تمثل نبضة من نبض الرعاية الحقيقية

 

وأوضح الدكتور أوس الشمسان أن هناك فجوة واضحة في الاستثمار في المنظومة الصحية، فالعالم ينفق 10 تريليونات دولار على الصحة سنويًا، لكن أقل من 3% منها للتعليم والتطوير، يأتي ذلك في سياق عجز متوقع في الكوادر الصحية حول العالم، وسد هذا العجز يمكن أن يوفر اقتصاديًا نحو 1.1 تريليون دولار ويُجنِّب العالم ملايين الوفيات

 

ولحل تلك المشكلة، يجب إعادة تعريف التعليم الصحي كاستثمار لا تكلفة، ومثلاً يمكن لتخصيص 1% فقط من الإنفاق الصحي أن يؤهل 50 مليون ممارس خلال عقد من الزمن، وهذا وحده كفيل بتقليل هذه الفجوة في القوى العاملة

 

يتوافق ذلك مع تقرير منظمة الصحة العالمية الذي يشير إلى أن التحديات في القوى العاملة الصحية لا تقف فقط عند العدد، بل تشمل "قلة الاستثمار في التعليم والتدريب"، وأن المنظومات الصحية حول العالم تعاني من ضعف في استيعاب خريجي التخصصات، أو توجيههم نحو الحاجات الصحيَّة الحقيقية

 

وبحسب كلمة الدكتور الشمسان، فإن مستقبل المنظومة الصحية يكمن في أن كل ممارس صحي يصبح معلمًا ومتعلمًا في الوقت نفسه وتتحول المستشفيات الى بيئات تعليمية حية، تدرس التعاطف كمواد أساسية إلى جانب المواد العلمية، ومن ثم يكون الاستثمار الصحيح هو الاستثمار في العقول

 

يتضمن ذلك تجنب الطابع التلقيني والبيروقراطي في التعليم، وتجاوز هيكل المحاضرات التقليدية، والتركيز على تقييم الاحتياجات التعليمية بدقة عبر حوار مباشر مع الممارسين الصحيين، إلى جانب تصميم برامج تفاعلية مرنة تراعي اختلاف الخبرات والظروف العملية، وتنفيذ التدريب داخل بيئة العمل بحيث يكون جزءًا من الممارسة اليومية، لا نشاطًا منفصلاً عنها، والاعتماد على تغذية راجعة مستمرة وتقييم تحسُّن الأداء بعد التطبيق

 

 

خريطة القوى العاملة الصحية والتنقل المستدام

دار النقاش في الجلسة الحوارية الأولى حول مستقبل التنقل المستدام للكوادر الصحية عبر توحيد الاعتراف بالمؤهلات الصحية بين الدول. أدار الجلسة الأستاذة دينا السماعيل من الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وشارك فيها عدد من المتحدثين الدوليين الذين يمثلون الجهات التنظيمية والأكاديمية العالمية، من بينها الاتحاد العالمي للتعليم الطبي، والمجلس الطبي الكندي، ورابطة كليات الطب الأمريكية، والاتحاد الدولي للهيئات الطبية، إضافة إلى خبراء في الاعتماد الصحي

 

 

إن هذه الجلسة تأتي بالتوافق مع أكثر الإستراتيجيات طموحًا في تاريخ منظمة الصحة العالمية بعنوان "إستراتيجية القوى العاملة الصحية العالمية 2030"، والتي هدفت إلى بناء أنظمة صحية قادرة على الصمود عبر الاستثمار في الإنسان أولاً

 

يفيد هذا التوجه في حل مشكلة كبيرة، فقبل عدة سنوات، أظهرت مراجعة بحثية نشرت في مجلة "الموارد البشرية من أجل الصحة العامة" أن العالم قد تقدم خطوة، لكنه ما زال بعيدًا عن الهدف. فعندما أُطلقت الإستراتيجية في 2016، كانت التقديرات تشير إلى نقص عالمي يُقدَّر بـ 18 مليون ممارس صحي بحلول عام 2030، معظمهم في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط

 

لكن بعد خمس سنوات من التنفيذ، ظهرت المراجعة أن العالم تمكن من تقليص الفجوة إلى نحو 11 مليون ممارس صحي، إنه إنجاز ملحوظ، لكنه لم يمنع تفاوتًا شديدًا بين دول العالم، فبينما شهدت بعض الدول تحسنًا في توظيف الممارسين الصحيين وتدريبهم، لا تزال مناطق مثل إفريقيا وجنوب آسيا تعاني من نقص حاد في الأطباء والممرضين، مقابل تركزٍ مفرط في الدول الغنية، وهو ما يهدد العدالة الصحية عالميًا

 

ولذلك، يوصي العلماء بتعزيز بيئة العمل الآمنة، وتقليل معدلات الإرهاق والتسرب المهني بين العاملين في الصحة، خاصة بعد أن كشفت جائحة كوفيد-19 هشاشة الأنظمة الصحية أمام الأزمات

 

في هذا السياق، يعرف التنقل المستدام للقوى العاملة بأنه نمطٌ من الهجرة المهنية المنظمة والمتوازنة التي تفيد كل الأطراف، بما في ذلك الممارس الصحي والدولة المرسلة والدولة المستقبلة، حيث يُفترض أن تكون الهجرة منظمة ومستدامة ويتم ذلك عبر وجود نظام عالمي موحَّد للاعتراف وتصنيف المؤهلات الطبية

 

 

تمكين القوى العاملة الصحية للتعامل مع التقنية الحيوية

تطرقت الجلسة الثانية إلى محور لا يقل أهمية: جاهزية القوى العاملة الصحية للتعامل مع التقنيات الحيوية المتقدمة. وشارك في النقاش عدد من القيادات الأكاديمية ورؤساء في شركات الأدوية الطبية، إلى جانب الدكتور أحمد الشمراني- الرئيس التنفيذي للمركز الوطني لتخطيط القوى العاملة الصحية، و أدار الحوار الدكتور عبد الله الشميمري - عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود، في حوار ركَّز على كيفية تسليح الممارس الصحي بالمعرفة والمهارات المطلوبة للتعامل مع التقنية الحيوية

 

في العقدين الأخيرين، صارت التقنية الحيوية تحدد ملامح الطب الحديث، من تشخيص السرطان إلى التنبؤ بأمراض نادرة، إلى ابتكار العلاجات الجديدة. ومع ذلك، فإن المهارة في التعامل مع هذه اللغة الجديدة – لغة الجينوم والتقنية الحيوية – لا تزال محدودة بين الممارسين الصحيين حول العالم

 

 

لنأخذ مثالاً على ذلك؛ موافقة هيئة الغذاء والدواء السعودية على دواء ليكانيماب لعلاج الالزهايمر قبل فترة بسيطة، حيث إنه دواء تم تصنيعه عبر التقنية الحيوية، إن هذه الموافقة سينتج عنها ورش عمل داخل المستشفى بين الأطباء والصيادلة والتمريض وإخصائي الأشعة والمختبر لمراجعة بروتوكولات اختيار المرضى وفحوصات تصوير أشعة الرنين وجدولة الجرعات، وتثقيف المرضى، وقوائم التيقظ الدوائي، وهكذا تتحول التقنية الحيوية من خبر إلى جاهزية تتطلب تدريبًا ممنهجًا للممارس الصحي عليها حسب نوع المادة والدواء

 

ومع إطلاق الإستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية في المملكة ضمن رؤية 2030، باتت التقنية الحيوية مسارًا وطنيًا ذا أولوية، ويعني هذا التحول أن الممارس الصحي سيواجه اختبارات جزيئية متقدمة جديدة، وعلاجات خلوية وجينية، وإجراءات تنظيمية متزايدة داخل بيئة العمل الصحية في السعودية

 

 

تشير مراجعات حديثة، منها دراسة نُشرت في 2024 إلى فجوة واضحة بين المهارات التي يكتسبها الطلاب ومتطلبات سوق العمل. فالكثير من البرامج الجامعية ما تزال تركز على الجوانب الجزيئية الأساسية؛ مثل التعريف بالحمض النووي والإنزيمات، بينما يتطلب سوق العمل مهارات أكثر تكاملًا؛ مثل تحليل بيانات الجينوم، والبرمجة الحيوية، وتصميم التجارب الآلية، وأساسيات الذكاء الاصطناعي الحيوي، والتعامل مع الأدوية والمواد المصنعة عبر التقنية الحيوية

 

وفي العام نفسه، أظهرت النتائج أن الصورة العالمية غير متكافئة، فبينما تملك بعض الدول برامج تدريبية متقدمة للأطباء في هذه النطاقات، تفتقر دول أخرى إلى مبادرات مماثلة

 

 

ويقترح العلماء في هذا النطاق ضرورة إنشاء إطار عالمي موحّد لتعليم الجينوم والتقنية الحيوية، حيث لم يعد تمكين القوى العاملة الصحية للتعامل مع التقنية الحيوية رفاهًا معرفيًا، بل أصبح ضرورة مهنية وإستراتيجية تمسُّ جميع الممارسين الصحيين في المملكة والعالم. فمع التسارع في تبنِّي الاختبارات الجزيئية وتقنيات التسلسل الجيني الشامل، وبدء إدماج العلاجات الخلوية والجينية في الممارسة السريرية، يتعين على الأطباء والصيادلة والممرضين وأخصائيي المختبرات الإلمام بمنظومة جديدة من الأدوات والمعايير والإجراءات التنظيمية، بما يضمن اتخاذ قرارات علاجية أكثر دقة، وتسريع انتقال المعرفة من المختبر إلى سرير المريض، ضمن أطر واضحة للأخلاقيات وحوكمة البيانات

 

ولا يقتصر أثر التقانة الحيوية على نتائج المرضى فحسب، بل يمتد إلى سلامة فرق الرعاية الصحية نفسها. فالتعامل مع المستحضرات الحيوية، وإدارة سلاسل التبريد، ومراقبة السلامة الدوائية، تتطلَّب بروتوكولات صارمة وتدريبًا دوريًا مستمرًا

 

 

تنعكس هذه المنهجية مباشرة على الكفاءة السريرية والتشغيلية للنظام الصحي؛ فكلما تعزَّزت قدرة الممارس على اختيار الفحوص الجزيئية الملائمة، وتفسير نتائجها، ازدادت دقة التشخيص، وتراجعت الفحوص والعلاجات غير الضرورية، وتحسنت مؤشرات نتائج المرضى، وبينما تتجه المملكة إلى تحقيق مستهدفات رؤية 2030، يصبح الاستثمار في العقول، لا في الأجهزة وحدها، هو الرهان الحقيقي لبناء منظومة صحية قادرة على التكيُّف والتعلُّم والاستدامة. فالإنسان هو جوهر الطب وهدفه، والاستثمار فيه مغامرة ناجحة في كل مرة

 

 

المصادر

 

 

المجلة الأمريكية لعلم الوراثة البشرية. «ضمان أفضل الممارسات في تعليم علم الجينوم: مراجعة استطلاعية لتقييم احتياجات التدريب وتقييم برامج التعليم الجينومي للكوادر الصحية»، 2025

 

 

معهد ماكنزي للصحة. «نبض الصحة: إعادة تصور القوى العاملة الصحية في المستقبل». تقرير تحليلي عن فجوة العاملين في القطاع الصحي عالميًا وتأثيرها على عبء المرض والاقتصاد، 2025

 

 

منظمة الصحة العالمية، الإستراتيجية العالمية للرصد الجينومي للعوامل الممرِضة ذات الإمكانات الوبائية والجائحية

 

 

مجلة التقدّم في تعليم المهن الطبية. «التعليم التمكيني: نموذج جديد للتدريب أثناء الخدمة لطاقم التمريض». طرح نموذج تدريبي يركّز على التعلم الذاتي والتطبيق العملي لرفع كفاءة التمريض، 2017

 

 

المجلة الدولية للتعليم الطبي. «نظرة شاملة على إدماج التعلّم الخدمي في التعليم الطبي». وضع إطار رباعي المراحل لإدماج الخدمة المجتمعية في مناهج كليات الطب (التخطيط، التنفيذ، التأمل والعرض، ثم التقييم والاحتفاء)، 2014

 

 

منظمة الصحة العالمية. «النقل المستدام من أجل الصحة: مبادرة الصحة الحضرية كنموذج محفّز للتغيير». وثيقة سياسات تبيّن كيف يمكن لأنظمة النقل الحضري النظيف والآمن أن تحسّن الصحة العامة، 2021

 

 

مجلة «الموارد البشرية في الصحة». «الإستراتيجية العالمية للموارد البشرية في الصحة: القوى العاملة 2030 — مراجعة بعد خمس سنوات». قراءة نقدية لتقدّم أجندة القوى العاملة الصحية عالميًا، بما في ذلك الأزمات، توزيع الكوادر، والإنصاف المهني، 2024