أربع قضايا تُحدّد ملامح المستقبل للممارس الصحي

 

في أواخر سبتمبر 2025، تحولت مدينة نيويورك إلى منصة للحوار حول مستقبل القوى العاملة في القطاع الصحي، مع انطلاق فعالية "الصحة بلا حدود: بناء قوة عاملة عالمية للمستقبل" التي نظمتها الهيئة السعودية للتخصصات الصحية بالتوازي مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة

 

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر على هامش الاجتماعات الأممية، بل مبادرة إستراتيجية جريئة تهدف إلى مواجهة مجموعة من أخطر التحديات التي تلوح في أفق أنظمة الرعاية الصحية في العالم، وتحت سقف واحد، اجتمع مجموعة من قادة الصحة من المنظمات الدولية، وصنَّاع القرار، والباحثين، ومؤسسات التعليم الطبي، في حوار مفتوح حول مستقبل الممارس الصحي

 

كان الحدث في جوهره دعوة لإعادة التفكير في مفهوم العمل الصحي كقضية إنسانية عالمية مشتركة، وليس مجرد ملف وطني. فالتحديات التي تواجه الممارس الصحي في إفريقيا أو الممرضة في آسيا، أو العامل الصحي في الشرق الأوسط، أصبحت متشابكة على مستوى عالمي، سواء في قضايا التعليم والتدريب الصحي، أو الهجرة أو المرونة النفسية

 

ومن هنا، جاءت رسالة الفعالية واضحة: لن يكون تحقيق شعار "الصحة للجميع" ممكنًا ما لم نتشارك جميعًا في بناء الكفاءات التي ستحمل عبء هذا الهدف في المستقبل

 

ولفهم مدى عمق هذه الفاعلية، سوف نناقش في نشرة أكتوبر أربعة من الموضوعات التي طرحت على طاولة النقاش في نيويورك، والتي تمثل تحديات جذرية لطبيعة الممارسة الصحية حول العالم، الآن وفي المستقبلين القريب والبعيد

 

 القضية الأولى: الفجوة العالمية في القوى العاملة الصحية

تشير أحدث تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن المخزون العالمي من الممارسين الصحيين تخطَّى اليوم 70 مليونًا، لكن الطريق إلى التغطية الصحية الشاملة ما يزال محفوفًا بنقص متوقع قدره نحو 11.1 مليون ممارس صحي بحلول 2030، يتركز معظمها في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل

 

في الواقع، فإنه بعد مراجعات ما بعد الجائحة، خفَّضت منظمة الصحة العالمية تقدير عجز 2020 من 15.4 مليون إلى 14.7 مليون عام 2023، مع توقُّع فجوة قدرها 11.1 مليون عام 2030 إذا استمرت السياسات الحالية، والتي تتضمن تحسنًا بطيئًا وغير متكافئ في الممارسة الصحية على مستوى جغرافيا العالم كله

 

في الفئات المهنية، تظهر البيانات الأحدث أن العالم سيفتقر إلى نحو 4.5 ملايين ممرِّضة بحلول 2030، مع أكبر الفجوات في إفريقيا وجنوب شرق آسيا وشرق المتوسط وبعض أمريكا اللاتينية

 

يحدث هذا النقص لأسباب عدة، يأتي في مقدمتها النمو السكاني وتحوُّل العبء المرضي؛ إذ تؤدي شيخوخة السكان وتزايد الأمراض المزمنة إلى زيادة الطلب على خدمات الرعاية الصحية بوتيرة تفوق قدرة التعليم والتوظيف على التوسع

 

ولذلك، أشارت مراجعات بحثية أجرتها منظمة الصحة العالمية لعام 2022 إلى أن تلك الأسباب تسرع من اتساع الفجوة بين عدد الممارسين الصحيين حول العالم وعدد السكان، إذا لم تُسرَّع وتيرة التعليم والتدريب الطبي

 

من جانب آخر، تتحرَّك الكفاءات بشكل غير متجانس، فتزيد باتجاه بعض الدول، وتنخفض باتجاه أخرى، وتأتي القدرة الاستيعابية المحدودة للتعليم الصحي في كثير من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لتُوسِّع من حجم المشكلة، حيث لا تكفي مقاعد الكليات الصحية والمستشفيات التعليمية لإنتاج أعداد ونوعيات تلائم الاحتياجات

 

وإلى جانب ذلك، يظهر الاحتراق الوظيفي وسوء ظروف العمل، كأحد أهم أسباب الفجوة المتفاقمة في أعداد الممارسين الصحيين. وتُعدُّ ضغوط ما بعد كوفيد هي خير مثال، حيث دفعت إلى التسرب المهني الداخلي والخارجي، مع ضغط متزايد على التمريض تحديدًا

 

 

وفي الواقع، فقد نبهت منظمة الصحة العالمية إلى أن الجائحة تسببت في إنهاك الممارسين الصحيين وفقدان عديدٍ من الأرواح في صفوفهم، كما كشفت عن نقصٍ في الأعداد وسوءٍ في التوزيع، مما أظهر أن استمرار الاتجاهات الحالية قد يؤدي إلى عجزٍ عالميٍّ كبير بحلول عام 2030، ولا سيما في البلدان منخفضة الدخل

 

هذا العجز ليس مجرد رقمٍ إحصائي، بل هو قضية تهدد تحقيق التغطية الصحية الشاملة وأهداف التنمية المستدامة على مستوى العالم؛ إذ تُقاس في نهاية المطاف جودة النظام الصحي بقدرات الممارسين الصحيين وتوزُّعِهم الجغرافي، لا بعدد الأسِرَّة أو المباني

 

من جانب آخر، فعمق هذا العجز لا يُعرَّف بالعدد فقط، لكن بالنقص في تخصصات بعينها (مثل التمريض)، والحركة غير المتساوية للهجرات، والتي تسببت في "تفريغ" بعض الأماكن من ممارسيها الصحيين

 

ولذلك، تعمل الهيئات الدولية المعنية على وضع خططٍ محكمةٍ للتخطيط والتمويل بما يتناسب مع حجم الفجوة، وعلى توسيع نطاق التعليم الصحي النوعي من خلال زيادة المقاعد الدراسية وتحديث المناهج لتواكب احتياجات الرعاية الأولية والأمراض المزمنة، إلى جانب تعزيز التدريب السريري مع ضمان الإشراف والجودة

 

إلى جانب ذلك، يجب العمل على تحسين ظروف العمل، من خلال أجور تنافسية، ومسارات ترقِّي مهنية، وأمان وظيفي، وصحة نفسية، وحماية من العنف، وسكن ونقل، خصوصًا للعاملين في المناطق الطرفية

 

وتعمل بعض الدول على إعادة تصميم فرق الرعاية؛ مثل اعتماد مشاركة المهام ونماذج الرعاية متعددة التخصصات؛ لتعظيم إنتاجية الأطباء والممرِّضين والقابلات، بل وتُظهر بيانات منظمة التعاون الاقتصادي أن إعادة توزيع الأدوار بين الأطباء والتمريض عاملٌ حاسمٌ

 

رغم ذلك، يظل التحدي قائمًا، ويجب أن تعمل دول العالم على تنظيمه بشكل منضبط، وإلا فقد نتعرض لضغط شديد على مستوى العالم

 

 

القضية الثانية: توحيد تصنيف الممارسين دوليًا

على الرغم من نقص أعداد الممارسين الصحيين، فإن حركتهم عبر الحدود تزداد بشراسة؛ فلم يعد المريض في مستشفى الرياض أو لندن أو نيروبي يتلقى العلاج من أيدٍ محليةٍ فقط. فقد أصبحت الكفاءات الطبية اليوم عابرةً للقارات، تنتقل مع أزماتها ومهاراتها وطموحاتها، حاملةً معها أسئلة ملحَّة عن التصنيفات الطبية والمهنية

 

كيف يتمكن الطبيب أو الممرِّض أو أخصائي العلاج الطبيعي من إثبات مؤهلاته وممارسة مهنته في أي مكان بالعالم دون المرور بمتاهات البيروقراطية، أو الوقوع في فخ التقييمات المتكررة التي لا تنتهي؟ هذا حقا سؤال مهم، خاصة في سياق تغير عالمي كبير في "جغرافيا" الممارسين الصحيين

 

على سبيل المثال، وفقًا لتقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ازداد عدد الأطباء والممرضين المهاجرين في الدول الأعضاء بنسبة 60% خلال عقد واحد فقط

 

هذه "الهجرة البيضاء"، كما يصفها بعض الخبراء، ليست حركة بسيطة من الجنوب إلى الشمال (على خريطة العالم)، بل أصبحت شبكة معقدة من التنقلات المتبادلة، منها تنقلات جنوب-جنوب، وشمال-جنوب، وداخل الإقليم الواحد

 

بل إن التعليم الطبي نفسه بات عابرًا للحدود؛ فتجد طلابا من آسيا وأفريقيا يتعلمون في أوروبا أو أستراليا، ثم يعودون أو ينتقلون إلى دول أخرى؛ مما يزيد من تشابك خيوط الاعتراف بالمؤهلات والتصنيفات المهنية

 

في هذا السياق فإن أحد أكبر التحديات التي تواجه العاملين الصحيين المهاجرين هو غياب نظام موحَّد لتصنيف المؤهلات الطبية. فالممرض الذي حصل على درجة البكالوريوس في الفلبين، قد يُطلب منه الخضوع لاختبارات إضافية في كندا، والطبيب المتخصص من دولة عربية قد يحتاج إلى وقت لإثبات كفاءته في دولة عربية مجاورة، رغم أن خبرته السريرية لا تقل عن زملائه المحليين

 

هذه المشكلة لا تعود فقط إلى فروقات التعليم والتدريب، بل إلى غياب لغة مهنية مشتركة، أو إطار عالمي موحَّد لتوصيف القدرات والمهارات. والنتيجة هي إهدار للطاقات البشرية، وتأخير في توظيف الكفاءات في المناطق المحتاجة، وتكاليف مالية وبيروقراطية هائلة على الدول والمؤسسات الصحية

 

وفي الواقع، يُعَدُّ توحيد الشهادات والاعتمادات المهنية للعاملين في القطاع الصحي من أكثر القضايا تعقيدًا في أنظمة الرعاية الصحية الحديثة؛ إذ تتداخل فيه متطلبات الدول والجهات التنظيمية المختلفة مع اعتبارات الخصوصية وعبء الإجراءات الإدارية. ويؤدي هذا التعدد في القوانين والمعايير إلى صعوبة إنشاء نظامٍ موحَّدٍ وسَلِسٍ للتحقق من مؤهلات العاملين

 

إنَّ توحيد التصنيفات الطبية لا يعني طمس الخصوصيات المحلية، بل إيجاد نظام عالمي للمعادلة والاعتراف المتبادل، شبيه بما حققته بعض الاتفاقيات المحلية؛ مثل اتفاقية الترخيص التمريضي متعدد الولايات، أو الاتفاق الطبي بين الولايات، والتي تسمح للأطباء والتمريض في الولايات المتحدة بممارسة المهنة في أكثر من 40 ولاية بترخيص واحد

 

على الصعيد الدولي، تعمل منظمات؛ مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على بناء قواعد بيانات ومعايير موحدة لرصد حركة الكفاءات الصحية عالميًا، وتعزيز التعاون بين الدول فيما يتعلق بالاعتراف بالمؤهلات، وتوحيد إجراءات التسجيل والترخيص، ووضع آليات أخلاقية للتوظيف العابر للحدود

 

وهدف هذه الجهود هو تحقيق التوازن بين حق الدول في حماية أنظمتها الصحية، وحق المهنيين في حرية التنقل والعمل الكريم؛ بحيث لا تتحول الهجرة إلى نزيف، ولا تتحول حماية الأنظمة الصحية إلى عائق بيروقراطي خانق

 

يأتي ذلك في سياق مهم، فمع التطور الرقمي، بدأت تظهر حلول مبتكرة تسعى إلى رقمنة عمليات الاعتماد الطبي، وجعلها أكثر شفافية وكفاءة؛ فبعض الأنظمة باتت توفر قاعدة بيانات موحدة للتحقق من المؤهلات مباشرة من مصادرها الأصلية، وتسمح بإنشاء ملفات رقمية موحدة للممارسين الصحيين يمكن مشاركتها بين الدول والمؤسسات

 

 

حاليًا تهدف منظمة الصحة العالمية إلى تطوير معايير مشتركة للاعتراف بالمؤهلات، وإنشاء نظم مراقبة دولية لحركة الكفاءات، ودعم الدول النامية في بناء القدرات المؤسسية للتخطيط للقوى العاملة الصحية، ونشر سياسات وممارسات مبتكرة حول التوظيف العادل وتبادل الخبرات

 

ومن بين المقترحات أيضًا إنشاء "مختبر سياسات عالمي"؛ لاختبار حلول عملية في بلدان مختارة؛ مثل تبسيط إجراءات الترخيص، أو اعتماد شهادات إلكترونية موحدة، أو تطبيق نماذج تعاون ثنائي لتبادل الكفاءات

 

وفي الواقع، يبدو المستقبل متجهًا نحو مفهوم جديد، وهو "الجواز المهني الصحي العالمي"، الذي يُعرِّف هُوِيَّة الطبيب أو الممرض ليس فقط بشهادته، بل بمسيرته المهنية وكفاءته الموثقة دوليًا

 

قد يستغرق هذا الحلم سنوات من التنسيق، لكنه أصبح ممكنًا بفضل تطور التكنولوجيا، وازدياد الوعي بأهمية العدالة في توزيع القوى العاملة الصحية

 

إن توحيد التصنيفات الطبية للممارسين الصحيين حول العالم ليس مجرد خطوة إدارية، بل مشروع إنساني واقتصادي وأخلاقي في آنٍ واحدٍ، يهدف إلى بناء نظام صحي عالمي أكثر كفاءة، وأكثر إنصافًا، وأكثر قدرة على الاستجابة للأزمات الصحية العابرة للحدود، والتي توحِّد مصير البشرية، وهي من القضايا الرئيسة التي نوقشت في فعالية نيويورك في شهر سبتمبر

 

 

القضية الثالثة: مرونة الممارس الصحي وصحته النفسية

يأتي كل ما سبق في إطار مشكلةٍ أوسع نطاقًا؛ إذ بدأت الأضواء في السنوات الأخيرة تُسلَّط بشكلٍ متزايد على الصحة النفسية للممارسين الصحيين، بعد أن أظهرت الدراسات أن من يُفترض بهم رعاية الآخرين يعانون هم أنفسهم من ضغوطٍ متراكمةٍ تهدد صحتهم الجسدية والنفسية. ولا تنعكس هذه الضغوط على حياتهم الشخصية فحسب، بل تمتد أيضًا لتؤثر في جودة الرعاية المقدَّمة للمرضى وفي استقرار المنظومات الصحية بأكملها

 

الممارس الصحي يعيش في بيئة تجمع بين العمل المتواصل والتوتر العاطفي الشديد، ومن ثم فالأطباء والممرضون- على سبيل المثال- يواجهون مواقف حياتية قاسية يوميًا، من إنقاذ حياة مريض في حالة حرجة، إلى التعامل مع الفقد، إلى تحمُّل مسؤولية قرارات مصيرية في ظل نقص الوقت أو الإمكانات

 

وتتكرَّر في الدراسات التي تناقش هذه الظاهرة مشكلات نفسية محددة تظهر بين الممارسين الصحيين، منها الاحتراق الوظيفي، وهو حالة من الإرهاق الجسدي والعقلي والعاطفي تنتج عن ضغوط العمل المزمنة، خاصة في البيئات التي تتطلب مسؤولية عالية، وتفاعلًا مستمرًا مع الآخرين؛ مثل الرعاية الصحية والتعليم

 

وقد عرَّفت منظمة الصحة العالمية عام 2019 الاحتراق الوظيفي رسميًا كمتلازمة ناتجة عن ضغط مزمن في مكان العمل لم يُحسن التعامل معه، ويظهر في ثلاثة أبعاد رئيسة هي: الإرهاق الشديد، والتبلد أو الانفصال العاطفي عن العمل، وانخفاض الشعور بالإنجاز أو الكفاءة المهنية

 

يشعر الممارس الصحي في هذه الحالة بأنه مستنزف الطاقة، وفاقد للحماس، ومتشكك في قيمة ما يقوم به

 

إلى جانب هذه الحالات، يظهر إجهاد التعاطف، وهو الإنهاك النفسي الناتج عن الانخراط العاطفي المستمر مع معاناة المرضى، كأحد أبرز المخاطر غير المرئية، والذي يتسم بالشعور بالإرهاق النفسي أو العاطفي بشكل أسرع من المعتاد، والابتعاد أو الانسحاب الاجتماعي، وتراجع الأداء المهني، وسيطرة الأفكار السلبية أو التشاؤم تجاه العمل

 

لا تنشأ هذه الاضطرابات من الضعف الشخصي، بل من تفاعل معقَّد بين الفرد والنظام، فهناك دائما عبء في العمل، ونقص في الكوادر، مع ساعات مناوبة طويلة بلا فترات راحة كافية، وغياب الدعم الإداري والنفسي، مع ثقافة مهنية تمجِّد التحمل، وترى أنَّ طلب المساعدة ضعفاً

 

كانت جائحة كوفيد نقطة تحوُّل كشفت هشاشة الدعم النفسي في القطاع الصحي، فقد أظهرت دراسات في الولايات المتحدة وأوروبا أن نسب الاكتئاب والقلق تضاعفت تقريبًا بين العاملين الصحيين أثناء الجائحة

 

فعلى سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات أن معدلات الاحتراق الوظيفي بين الممارسين الصحيين ارتفعت من نحو 30% في عام 2018 إلى ما يقارب 40% في عام 2022. ويُعزى ذلك بطبيعة الحال إلى تأثير الجائحة، غير أنه يُعد مؤشرًا واضحًا على حجم الضغوط التي يتعرض لها الممارسون الصحيون

 

والمشكلة أكبر من الممارس الصحي نفسه؛ حيث تنعكس الضغوط في سلوكيات ملموسة؛ مثل زيادة الأخطاء الطبية، وتراجع التعاطف مع المرضى، وارتفاع الغياب غير المبرر، وانخفاض الرضا المهني. وأحيانًا تتخذ أشكالاً خفية؛ مثل الانعزال، وسرعة الغضب، أو اللجوء إلى المنبهات والمهدئات لتجاوز التعب

 

لكن الحل ممكن، فقد بينت الدراسات في هذا النطاق أن المرونة النفسية تساعد الممارس الصحي على التكيف مع كل ذلك؛ حيث إن المرونة النفسية لا تعني الصلابة أو كبت المشاعر، بل هي القدرة على التكيُّف والعودة للتوازن بعد الأزمات، وهي مهارة يمكن تنميتها عبر التدريب والممارسة، وتتكوَّن من عناصر مثل التفاؤل الواقعي (رؤية الأمل دون إنكار الصعوبات)، والتعرف إلى المشاعر قبل أن تتفاقم، والتأقلم الإيجابي عبر حل المشكلات بدل الهروب منها، والدعم الاجتماعي والعناية الذاتية

 

فعلى سبيل المثال، أظهرت جلسات أسبوعية قصيرة في موقع العمل، يتناول فيها الفريق موضوعًا واحدًا (كالخوف أو الواقعية أو الرعاية الذاتية)، تحسنًا واضحًا في الشعور بالدعم وخفض الضغط

 

كذلك يدرس العلماء حاليًا استخدام الأساليب السلوكية المعرفية في بيئات العمل الصحية؛ من أجل إعادة بناء أفكار الممارسين الصحيين السلبية، وتبنِّي إستراتيجيات مواجهة فعالة

 

إلى جانب ذلك، تقترح دراسات عدة وسائل مؤثرة وسهلة؛ مثل تمارين التنفس، والتي تساعد على تنظيم الجهاز العصبي، وتقليل التوتر المزمن، ودعم الأقران والإرشاد، عبر وجود شبكات دعم من الزملاء أو برامج توجيه تقلل العزلة، وتعزِّز الثقة بالنفس

 

وإلى جانب ذلك، يتطلب الأمر إصلاحات تنظيمية، عبر تخفيف عبء العمل، وتوفير فترات راحة محمية، ودمج الرعاية النفسية في السياسات المؤسسية، وتسهيل الوصول إلى العلاج بسرِّية، مع إدماج المرونة في التعليم الطبي، عبر تدريب طلبة الطب والتمريض مبكرًا على مهارات التوازن الذهني، ومواجهة الضغط يحميهم مستقبلاً من الانهيار النفسي

 

وما زالت هناك مقاومة تتمثل في الخوف من "وصمة الضعف" عند طلب المساعدة، وضيق الوقت، وكثرة الالتزامات. ويوجه هذا الواقع الباحثين والمؤسسات المعنية إلى دراسة الظاهرة بعمقٍ أكبر. وقد أثبتت التجارب الحديثة أن الوقاية النفسية لا تعتمد فقط على جلسات العلاج، بل تتطلب نظامًا متكاملًا يدمج التثقيف والدعم والإصلاح التنظيمي. فالممارس الصحي، حين يُمنح الفرصة للعناية بنفسه، يصبح أكثر قدرةً على رعاية الآخرين، وتلك - في جوهرها - هي روح الطب

 

القضية الرابعة: مستقبل التدريب والتعليم الطبي

يشهد التعليم الطبي اليوم تحولًا جذريًا يُعيد صياغة مفهوم إعداد الممارس الصحي في القرن الحادي والعشرين. ومع التطور المتسارع في الرعاية الصحية، أصبح من الضروري أن تتطور مناهج التدريب الطبي بالوتيرة نفسها؛ لتواكب الثورة الرقمية، وتُلبي متطلبات المريض الحديث، وتستجيب لضغوط النظم الصحية المتزايدة. ويُعدّ هذا سؤالًا جوهريًا، والإجابة عنه تستلزم تعاونًا دوليًا لإحداث تغيير شامل في التعليم الطبي بما يتناسب مع طبيعة العالم المعاصر

 

وأحد أبرز ملامح هذا التحول هو الاعتماد الواسع على التكنولوجيا المتقدمة؛ فقد أصبحت أدوات مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من التعليم الطبي الحديث. وتوفر هذه التقنيات بيئات تعلم تفاعلية تسمح للطلاب بمحاكاة العمليات الجراحية، ودراسة التشريح ثلاثي الأبعاد، واتخاذ قرارات سريرية في مواقف افتراضية تحاكي الواقع دون تعريض المرضى للخطر

 

كما أن الذكاء الاصطناعي بدأ في إحداث ثورة في التعلُّم الشخصي؛ إذ تقدم المنصات التعليمية الذكية تغذية راجعة فورية، وتوصيات مخصصة لكل طالب؛ بما يجعل التعلم أكثر كفاءة وفعالية

 

هذه التطورات التقنية تتناغم مع دعوة بعض الباحثين إلى بناء منهج "هجين" يجمع بين الأساليب التقليدية والحديثة، ويركز على الطالب لا على المعلم، بل وينادي فريق من العلماء بأن التعليم الطبي يجب أن يتحول من نقل المعرفة إلى تمكين الطالب من اكتسابها ذاتيًا، وأن التكنولوجيا ليست غاية، بل وسيلة لتعزيز الفهم، وتنظيم المعرفة في مواجهة فيض المعلومات المعاصرة

 

وفي الوقت نفسه، يشهد التعليم الطبي تحولًا نحو التعلم متعدد التخصصات؛ إذ لم يعد الطبيب يعمل بمعزل عن فريق الرعاية الصحية. لذا تدرب كليات الطب طلابها إلى جانب طلبة التمريض والصيدلة والعلاج الطبيعي؛ مما يعزز روح التعاون، وفهم الأدوار المختلفة داخل الفريق الطبي. وهذا الاتجاه يعزز النهج الشمولي في الرعاية الصحية، الذي يدمج الأبعاد الجسدية والنفسية والاجتماعية في تقييم حالة المريض

 

ويتقاطع هذا التطور مع التحول نحو الرعاية المتمحورة حول المريض؛ فالتعليم الطبي الحديث لا يكتفي بتلقين المهارات التقنية، بل يركز على مهارات التواصل، والقدرة على بناء الثقة، وفهم الخلفيات الثقافية والاجتماعية للمرضى. فالكفاءة الثقافية أصبحت شرطًا جوهريًا في الطبيب المعاصر، خاصة في المجتمعات متعددة الأعراق والثقافات؛ لذلك تسعى كليات الطب إلى تضمين مقررات عن الذكاء العاطفي، والاحترام الثقافي، والتفاعل الإنساني، في الممارسة السريرية

 

ومن الركائز الجديدة في التعليم الطبي أيضًا التدريب القائم على المحاكاة عالية الدقة؛ فقد أثبتت الدراسات أن الطلبة الذين يتدربون باستخدام نماذج رقمية أو روبوتية واقعية يكتسبون مهارات سريرية أسرع وأكثر ثباتًا. وهذا النوع من التدريب يعزز مهارات اتخاذ القرار السريع، ويقلل الأخطاء السريرية، ويمنح المتدرب فرصة للتجريب دون خوف من إلحاق الضرر بالمريض

 

ولا يتوقف التعليم الطبي الحديث عند التخرج، بل أصبح مفهوم التعلُّم مدى الحياة جزءًا من هوية الممارس الصحي. فمع تسارع الاكتشافات الطبية، صار لزامًا على الأطباء والممرضين الاستمرار في التعلُّم من خلال الدورات الإلكترونية، والمؤتمرات الرقمية، وبرامج الشهادات التخصصية الدقيقة. وتؤكد منظمة الصحة العالمية في تقاريرها أن الاستثمار في التعليم المستمر هو الضمان الأساسي لبقاء الكوادر الصحية قادرة على التعامل مع تحديات المستقبل، من الأوبئة إلى التقنيات العلاجية الجديدة

 

كل هذه الاتجاهات تشير إلى أن المستقبل الواعد للتعليم الطبي سيكون مزيجًا من الابتكار والبراعة الإنسانية؛ فالتكنولوجيا لن تلغي دور الإنسان، بل ستعيد تشكيله؛ لأن الممارس الصحي لن يكون مجرد منفذ لإجراءات علاجية، بل شريكًا في رحلة المريض نحو الشفاء، مزودًا بمهارات تكنولوجية وإنسانية متكاملة

 

إنّ التعليم الطبي الفعَّال هو الذي يدمج المعرفة والمهارة والقيمة الإنسانية في منظومة واحدة، تُعد الممارس الصحي ليس فقط لممارسة المهنة، بل لقيادة التغيير في الرعاية الصحية

 

ما سبق يبين أن النقاشات حول موضوعات؛ مثل مرونة الممارس الصحي، وتوحيد التصنيفات، ونقص توافر الممارسين الصحيين، وطبيعة التعليم الطبي، ليست مجرد "كلام نظري"، بل هي ركائز أساسية لوجود القطاع الصحي بالأساس، وأي اهتزاز بها يؤثر مباشرة على صحة المريض، ليس في المملكة فقط، بل في العالم ككل

 

وفي هذا الإطار، تبرز السعودية بوصفها أحد الفاعلين الجدد في الدبلوماسية الصحية العالمية؛ حيث تملك رؤية إستراتيجية تهدف إلى توظيف المعرفة والخبرة الطبية السعودية كأداة للتأثير الإيجابي في المنظومة الصحية الدولية

 

ومن خلال تنظيم المؤتمرات العالمية؛ مثل فعالية الصحة بلا حدود في نيويورك، وقيادة مبادرات لاعتماد المعايير المهنية، وتوحيد إجراءات الاعتراف بالشهادات والتراخيص الصحية، تعمل المملكة على بناء شبكة متنامية من الشراكات الإستراتيجية التي تتجاوز حدودها الجغرافية؛ لتشمل المنظمات الدولية، والمؤسسات الأكاديمية، والهيئات التنظيمية في مختلف القارات

 

هذه المقاربة لا تكتفي بتعزيز مكانة السعودية كمصدر للمعرفة والخبرة، بل تعبِّر عن تحوُّل نوعي في مفهوم القوة الناعمة، فبدلًا من التركيز على الصورة التقليدية للدبلوماسية الثقافية أو الاقتصادية، تختار المملكة اليوم ملف الصحة كأداة للتقارب الإنساني والتعاون الدولي، وهو ملف يرتبط ارتباطًا مباشرًا برفاه الإنسان، واستقرار المجتمعات، والأمن الصحي العالمي

 

المصادر

 

 

اتجاهات الإرهاق بين العاملين في الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. المكتبة الوطنية للطب، 2025

 

التحديات الصحية العامة في العالم. المجلة العالمية للعلوم الصحية الأساسية والعامة، 2024

 

التعليم الطبي في عصر التطور التقني. المجلة الطبية البلقانية، 2023

 

المنصة الدولية لتنقل العاملين الصحيين. منظمة الصحة العالمية، 2017

 

الموارد البشرية الصحية في أعمال جمعية الصحة العالمية الخامسة والسبعين. منظمة الصحة العالمية، 2022

 

تسريع العمل لتحقيق أهداف القوى العاملة الصحية والرعوية بحلول عام 2030. منظمة الصحة العالمية، المجلس التنفيذي، 2025

 

تعزيز الصلابة النفسية لدى العاملين في القطاع الصحي. المكتبة الوطنية للطب، 2024

 

 

حماية القوى العاملة الصحية والاستثمار فيها. منظمة الصحة العالمية، جمعية الصحة العالمية، 2024

 

مستقبل التعليم الطبي. مجلة زانكو للعلوم الطبية، 2008

 

مستقبل التعليم الطبي: إعداد الجيل القادم من المهنيين الصحيين. وكالة خدمات الرعاية الصحية، 2024

 

مؤسسة الممرضين الأمريكيين تؤكد الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة تحديات القوى العاملة في التمريض. الجمعية الأمريكية للممرضين، 2023

 

نبض الصحة: إعادة تصور القوى العاملة الصحية في المستقبل. معهد ماكينزي للصحة، 2025