القضية الثالثة: مرونة الممارس الصحي وصحته النفسية
يأتي كل ما سبق في إطار مشكلةٍ أوسع نطاقًا؛ إذ بدأت الأضواء في السنوات الأخيرة تُسلَّط بشكلٍ متزايد على الصحة النفسية للممارسين الصحيين، بعد أن أظهرت الدراسات أن من يُفترض بهم رعاية الآخرين يعانون هم أنفسهم من ضغوطٍ متراكمةٍ تهدد صحتهم الجسدية والنفسية. ولا تنعكس هذه الضغوط على حياتهم الشخصية فحسب، بل تمتد أيضًا لتؤثر في جودة الرعاية المقدَّمة للمرضى وفي استقرار المنظومات الصحية بأكملها
الممارس الصحي يعيش في بيئة تجمع بين العمل المتواصل والتوتر العاطفي الشديد، ومن ثم فالأطباء والممرضون- على سبيل المثال- يواجهون مواقف حياتية قاسية يوميًا، من إنقاذ حياة مريض في حالة حرجة، إلى التعامل مع الفقد، إلى تحمُّل مسؤولية قرارات مصيرية في ظل نقص الوقت أو الإمكانات
وتتكرَّر في الدراسات التي تناقش هذه الظاهرة مشكلات نفسية محددة تظهر بين الممارسين الصحيين، منها الاحتراق الوظيفي، وهو حالة من الإرهاق الجسدي والعقلي والعاطفي تنتج عن ضغوط العمل المزمنة، خاصة في البيئات التي تتطلب مسؤولية عالية، وتفاعلًا مستمرًا مع الآخرين؛ مثل الرعاية الصحية والتعليم
وقد عرَّفت منظمة الصحة العالمية عام 2019 الاحتراق الوظيفي رسميًا كمتلازمة ناتجة عن ضغط مزمن في مكان العمل لم يُحسن التعامل معه، ويظهر في ثلاثة أبعاد رئيسة هي: الإرهاق الشديد، والتبلد أو الانفصال العاطفي عن العمل، وانخفاض الشعور بالإنجاز أو الكفاءة المهنية
يشعر الممارس الصحي في هذه الحالة بأنه مستنزف الطاقة، وفاقد للحماس، ومتشكك في قيمة ما يقوم به
إلى جانب هذه الحالات، يظهر إجهاد التعاطف، وهو الإنهاك النفسي الناتج عن الانخراط العاطفي المستمر مع معاناة المرضى، كأحد أبرز المخاطر غير المرئية، والذي يتسم بالشعور بالإرهاق النفسي أو العاطفي بشكل أسرع من المعتاد، والابتعاد أو الانسحاب الاجتماعي، وتراجع الأداء المهني، وسيطرة الأفكار السلبية أو التشاؤم تجاه العمل
لا تنشأ هذه الاضطرابات من الضعف الشخصي، بل من تفاعل معقَّد بين الفرد والنظام، فهناك دائما عبء في العمل، ونقص في الكوادر، مع ساعات مناوبة طويلة بلا فترات راحة كافية، وغياب الدعم الإداري والنفسي، مع ثقافة مهنية تمجِّد التحمل، وترى أنَّ طلب المساعدة ضعفاً
كانت جائحة كوفيد نقطة تحوُّل كشفت هشاشة الدعم النفسي في القطاع الصحي، فقد أظهرت دراسات في الولايات المتحدة وأوروبا أن نسب الاكتئاب والقلق تضاعفت تقريبًا بين العاملين الصحيين أثناء الجائحة
فعلى سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات أن معدلات الاحتراق الوظيفي بين الممارسين الصحيين ارتفعت من نحو 30% في عام 2018 إلى ما يقارب 40% في عام 2022. ويُعزى ذلك بطبيعة الحال إلى تأثير الجائحة، غير أنه يُعد مؤشرًا واضحًا على حجم الضغوط التي يتعرض لها الممارسون الصحيون
والمشكلة أكبر من الممارس الصحي نفسه؛ حيث تنعكس الضغوط في سلوكيات ملموسة؛ مثل زيادة الأخطاء الطبية، وتراجع التعاطف مع المرضى، وارتفاع الغياب غير المبرر، وانخفاض الرضا المهني. وأحيانًا تتخذ أشكالاً خفية؛ مثل الانعزال، وسرعة الغضب، أو اللجوء إلى المنبهات والمهدئات لتجاوز التعب
لكن الحل ممكن، فقد بينت الدراسات في هذا النطاق أن المرونة النفسية تساعد الممارس الصحي على التكيف مع كل ذلك؛ حيث إن المرونة النفسية لا تعني الصلابة أو كبت المشاعر، بل هي القدرة على التكيُّف والعودة للتوازن بعد الأزمات، وهي مهارة يمكن تنميتها عبر التدريب والممارسة، وتتكوَّن من عناصر مثل التفاؤل الواقعي (رؤية الأمل دون إنكار الصعوبات)، والتعرف إلى المشاعر قبل أن تتفاقم، والتأقلم الإيجابي عبر حل المشكلات بدل الهروب منها، والدعم الاجتماعي والعناية الذاتية
فعلى سبيل المثال، أظهرت جلسات أسبوعية قصيرة في موقع العمل، يتناول فيها الفريق موضوعًا واحدًا (كالخوف أو الواقعية أو الرعاية الذاتية)، تحسنًا واضحًا في الشعور بالدعم وخفض الضغط
كذلك يدرس العلماء حاليًا استخدام الأساليب السلوكية المعرفية في بيئات العمل الصحية؛ من أجل إعادة بناء أفكار الممارسين الصحيين السلبية، وتبنِّي إستراتيجيات مواجهة فعالة
إلى جانب ذلك، تقترح دراسات عدة وسائل مؤثرة وسهلة؛ مثل تمارين التنفس، والتي تساعد على تنظيم الجهاز العصبي، وتقليل التوتر المزمن، ودعم الأقران والإرشاد، عبر وجود شبكات دعم من الزملاء أو برامج توجيه تقلل العزلة، وتعزِّز الثقة بالنفس
وإلى جانب ذلك، يتطلب الأمر إصلاحات تنظيمية، عبر تخفيف عبء العمل، وتوفير فترات راحة محمية، ودمج الرعاية النفسية في السياسات المؤسسية، وتسهيل الوصول إلى العلاج بسرِّية، مع إدماج المرونة في التعليم الطبي، عبر تدريب طلبة الطب والتمريض مبكرًا على مهارات التوازن الذهني، ومواجهة الضغط يحميهم مستقبلاً من الانهيار النفسي
وما زالت هناك مقاومة تتمثل في الخوف من "وصمة الضعف" عند طلب المساعدة، وضيق الوقت، وكثرة الالتزامات. ويوجه هذا الواقع الباحثين والمؤسسات المعنية إلى دراسة الظاهرة بعمقٍ أكبر. وقد أثبتت التجارب الحديثة أن الوقاية النفسية لا تعتمد فقط على جلسات العلاج، بل تتطلب نظامًا متكاملًا يدمج التثقيف والدعم والإصلاح التنظيمي. فالممارس الصحي، حين يُمنح الفرصة للعناية بنفسه، يصبح أكثر قدرةً على رعاية الآخرين، وتلك - في جوهرها - هي روح الطب