الهيئة السعودية للتخصصات الصحية في الأمم المتحدة.. لِمَ التوسع عالميًا؟
عامًا بعد عام، تمضي الهيئة السعودية للتخصصات الصحية بخطوات متسارعة نحو ترسيخ موقعها كأحد أهم محركات التطوير الصحي في المنطقة
إن الإستراتيجية الجديدة التي أطلقتها الهيئة، تحت شعار "تمكين ممارسين صحيين منافسين عالميًا"، ليست مجرد بيان طموح، بل تحولت إلى خريطة طريق تستند إلى ركائز واضحة تعكس التطلعات لتعزيز الحضور الدولي
تقوم الإستراتيجية الجديدة للهيئة على خمس ركائز مترابطة تُشكّل منظومة أدوات دقيقة لتحقيق أهدافها؛ إذ تركّز على تعزيز التميّز المهني عبر الارتقاء بمعايير الممارسة وضمان الجودة، والتوسّع العالمي بما يعزّز حضور الهيئة وتأثيرها على الساحة الدولية، وترسيخ محورية الممارسين الصحيين بوصفهم قلب المنظومة، وضمان استدامة الكوادر والإجراءات والخدمات للحفاظ على فاعليتها على المدى الطويل، إضافةً إلى تطوير حلول متقدمة تعزّز كفاءة العمل وترفع مستوى الإنتاجية
من خلال كل ما سبق، تسعى الهيئة إلى إعداد كوادر صحية تمتلك أعلى مستويات الكفاءة والخبرة عالميًا، بما يؤهلها لقيادة القوى العاملة الصحية في المستقبل، مع تعزيز حضور المملكة دوليًا من خلال ترسيخ مكانتها كوجهة لتطوير الممارسين الصحيين
إنَّ الاستثمار في الممارسين الصحيين لا يقتصر على تلبية احتياجات المملكة الداخلية فحسب، بل يمتد ليجعل منها مرجعًا في صياغة معايير التميُّز المهني وتطويرها، ووجهةً رائدة في تأهيل الكفاءات الصحية عالميًا، فضلًا عن كونها مركزًا فكريًا يقود الحوارات حول تطوير القدرات الصحية. وهذا التوجّه لا يعبِّر عن رغبة في التصدير المعرفي فحسب، بل يعكس رؤية إستراتيجية ترى في الانفتاح والتعاون الدولي وسيلةً لرفع مستوى الأنظمة الصحية المحلية
نشاط كثيف ودقيق
ولذلك فإن نشاط الهيئة حاليًا يمكن وصفه "بالكثيف" في هذا السياق تحديدًا، فمثلًا شاركت الهيئة في المؤتمر الدولي السادس عشر للتنظيم الطبي 2025، هذا المؤتمر نظمته المنظمة الدولية للهيئات التنظيمية الطبية، واستضافة المجلس الطبي الآيرلندي، من 3 حتى 6 من سبتمبر الحالي، تحت شعار "التنظيم الطبي الموجَّه نحو الإنسان من أجل مجتمع عالمي أكثر أمانًا"، وذلك بحضور عديدٍ من الخبراء والمختصين في مجال التنظيم الطبي
وفي 27 أغسطس الماضي ختمت الهيئة مشاركتها في مؤتمر الجمعية الأوروبية للتعليم الطبي، الذي يعد من أبرز المؤتمرات العالمية في مجال التعليم الطبي
وفي يونيو الماضي شاركت الهيئة السعودية للتخصصات الصحية ضمن وفد الجناح السعودي في مؤتمر "بايو" الدولي للتقنية الحيوية 2025، المنعقد في مدينة بوسطن الأمريكية خلال الفترة من 16 إلى 19 يونيو، الذي يُعد من أبرز المنصات العالمية في مجالات التقنية الحيوية والابتكار الصحي
وقبلها بأقل من شهر شاركت الهيئة في مؤتمر الاتحاد العالمي للتعليم الطبي والمعرض المصاحب له، والذي عُقد في مدينة بانكوك بمملكة تايلاند، في الفترة الممتدة من 25 وحتى 28 مايو 2025م، وتأتي هذه المشاركة ضمن جهودها المستمرة لتطوير التعليم الصحي في المملكة، ونقل تجربتها إلى مجتمع التعليم الصحي دوليًا
في الأمم المتحدة
وحاليًا، تستعد الهيئة للمشاركة خلال أيام في أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، تحت شعار: "الصحة بلا حدود: بناء قوى عاملة صحية عالمية للمستقبل". وفي هذا الإطار، تنظم الهيئة فعالية علمية مصاحبة تتضمن جلسات محورية يقدِّم خلالها نخبة من الباحثين والخبراء رؤى علمية وحلولًا عملية لمواجهة التحديات العالمية في مجال تنمية القوى العاملة الصحية
كما يصاحب الفعالية معرض ثقافي يسلط الضوء على ملامح الهوية السعودية ومشاريعها التنموية، إضافة إلى سلسلة من اللقاءات والحوارات التي تهدف إلى تعزيز الشراكات الدولية في مجالات التعليم والتدريب الصحي، واستعراض الابتكارات والتقنيات الحديثة التي تسهم في تطوير هذا القطاع الحيوي
هذا مهم حقًا، حيث يواجه العالم اليوم أكبر تحدٍّ في تاريخه على صعيد القوى العاملة في القطاع الصحي. فبحلول عام 2030، تتوقع منظمة الصحة العالمية عجزًا عالميًا يبلغ 11 مليون ممارس صحي، وهو ما يهدِّد إتاحة الرعاية في مختلف المناطق
يناقش الحدث موضوعات تخص القطاع الصحي، عن طريق فعاليات ومحاضرات وجلسات نقاشية ومقابلات رفيعة المستوى مع خبراء عالميين مشهود لهم بالكفاءة، للحديث عن موضوعات؛ مثل دعم القوى العاملة الصحية العالمية المستقبلية وكيف يمكن للدول أن تدعم التطوير المستمر لمهارات الممارسين الصحيين
تشير الإحصاءات إلى أن ما يقارب 15% من القوى العاملة في المجال الصحي عالميًا يعملون خارج بلدانهم الأصلية، وهنا يبرز سؤال محوري: كيف يمكن للدول المصدِّرة والمستقبِلة للكوادر أن تتعاون بصورة تضمن مصلحة الممارس الصحي نفسه، وفي الوقت ذاته تعزز قدرات أنظمتها الصحية على الصمود والاستدامة؟ وهل يمكن تحويل تجربة المهاجرين الصحيين من مجرد حركة فردية إلى رافعة حقيقية لتطوير الأنظمة الصحية محليًا وعالميًا؟
كما يطرح الحدث قضية أخرى ذات أبعاد إستراتيجية، وهي توحيد المؤهلات، والاعتماد المهني عبر الحدود. فغياب منظومة مشتركة للاعتراف بالمهارات والمعارف يعد من أكبر العوائق أمام بناء شبكة صحية عالمية متماسكة
ومن ثم، يصبح التعاون بين الجهات التنظيمية والأنظمة الصحية والمنظمات الدولية أمرًا لا غنى عنه، لضمان تجهيز الممارسين الصحيين، وإكسابهم الاعتراف والقدرة على تلبية احتياجات الصحة العالمية
وبالطبع، يتضمن ذلك جلسات نقاشية مخصَّصة لمواءمة شهادات القوى العاملة الصحية العالمية، إضافةً إلى فعاليات تناقش سُبل تصميم برامج التدريب لجذب الكفاءات الصحية الدولية مع ضمان الاعتراف بمهاراتهم ومكافأتهم عالميًا. كما يتناول التدريب المدعوم بالتكنولوجيا، الذي يمكن أن يسدَّ فجوات المهارات، ويعزِّز الرقابة التنظيمية، ويوسِّع فرص التدريب الدولية
لِمَ الأمم المتحدة؟
عبر مشاركات رفيعة المستوى من هذا النوع، فإن السعودية تريد أن تتحول إلى مركز عالمي في قطاع الصحة، مثلما فعلت في الطاقة والاقتصاد
إنَّ تنظيم حدث عالمي في هذا التوقيت بنيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، يضع المملكة في موقع قيادي داخل النقاش الدولي حول إحدى أهم القضايا الصحية في العقد الحالي، وهي النقص العالمي في الكوادر الصحية. كما يعزِّز استخدام الدبلوماسية الصحية دور الهيئة بوصفها قائدًا ومرجعًا يسهم في صياغة المعايير، وتطوير القوى العاملة الصحية، وفتح قنوات التعاون بين الدول المصدِّرة والمستقبِلة للكفاءات
في النهاية، فإن الهيئة السعودية للتخصصات الصحية أصبحت لديها خبرة واسعة متراكمة في الاعتماد، والتصنيف، وبرامج التدريب الصحي، ومن ثم فإذا تم توحيد المعايير عالميًا، يُمكن للسعودية أن تقدم نفسها كمركز اعتماد إقليمي ودولي، تصدر خبرتها للآخرين، وهذا يعزز من مكانتها ليس فقط كـ "مستورد للكفاءات" بل أيضا كمصدِّر للأنظمة والمعايير، وبذلك تتوافق هذه الرؤية مع الرؤية الاقتصادية الأوسع للمملكة، حيث تضع رؤية 2030 الاقتصاد المعرفي ضمن ركائزها الرئيسة للتحول الوطني
ومن هذا المنطلق، فإن ملف القوى العاملة الصحية لا يقتصر على البعد المهني أو الأكاديمي فحسب، بل يفتح المجال أمام المملكة لتصبح وجهة استثمارية في قطاعات واعدة، قادرة على جذب الشركات العالمية، واستقطاب رأس المال البشري والتقني، وترسيخ الموقع الإقليمي للمملكة في الابتكار في الرعاية الصحية
اليوم الأول : قضايا هجرة الممارسين بين الدول والتمريض في صدارة النقاش
يحظى برنامج اليوم الأول بمشاركات واسعة من قيادات صحية عالمية وخبراء من منظمات دولية، ومن المنتظر أن يفتتح الدكتور محمد الرسي، الرئيس التنفيذي للتطوير والتميز المؤسسي في هيئة التخصصات الصحية، بكلمة ترحيبية، تليها مقابلة رفيعة المستوى مع الدكتور آدم إسماعيل من منظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط، يتناول فيها مستقبل القوى العاملة الصحية
ويشتمل اليوم الأول كذلك على نقاشات حول التعاون العابر للحدود وهجرة الممارسين الصحيين، بمشاركة الإعلامي راجش ميرشانداني والخبيرة إلدا كولبا، إلى جانب خبراء من البنك الدولي. وفي جلسة أخرى، يناقش الدكتور جارباس باربوسا، المدير الإقليمي لمنظمة الصحة للبلدان الأمريكية، والسيدة مريم جاشي، سبل بناء قوى صحية مترابطة في المستقبل
كما يتضمن البرنامج نقاشًا مفتوحًا حول مهنة التمريض ومستقبلها في ظل تحديات الهجرة والنقص العالمي في القوى العاملة، بمشاركة عدد من الخبراء، من بينهم السيد هاورد كاتون، الرئيس التنفيذي للمجلس الدولي للتمريض. وتشهد المناقشات أيضًا تسليط الضوء على الجانب الإنساني للعاملين الصحيين من خلال جلسة مخصصة للضغوط المهنية والإرهاق النفسي. بالإضافة إلى ذلك، سيكون للأستاذ أحمد الشمراني، الرئيس التنفيذي للأكاديمية الصحية، حديث خاص حول الأساليب العملية لتعزيز النظم الصحية عبر التعاون بين الحكومات ومؤسسات التدريب والهيئات المهنية
اليوم الثاني: الاعتماد الدولي والمهارات الرقمية في قلب التركيز
ينطلق اليوم الثاني بمناقشة موضوع حيوي يتمثل في تنسيق الاعتماد الدولي والاعتراف بمؤهلات الممارسين الصحيين. وتفتتح الجلسة الأستاذة دينا السماعيل، المدير التنفيذي للدبلوماسية الصحية بالهيئة السعودية للتخصصات الصحية، بكلمة تستعرض رؤى واضحة لمستقبل شهادات طبية معترف بها عالميًا، تليها مداخلة من الدكتور ديارميد أوشي، رئيس كلية الأطباء الملكية في أيرلندا، يستعرض فيها دور الاعتماد في تسهيل تنقل المهنيين وخبراته السابقة في هذا المجال
كما تُعقد مقابلة رفيعة المستوى مع الدكتور غويليرمي دورتي، ممثل شبكة البرلمانيين المعنيين بالصحة العالمية، يسلط فيها الضوء على أهمية توحيد المعايير الدولية واعتماد السياسات التي تعكس التحديات الصحية المعاصرة. ومن المتوقع أن تقدم السعودية أيضًا إطارًا مقترحًا من خلال الدكتور مهند آل مغثم، المدير العام لمعايير الممارسة المهنية في الهيئة، يتناول فيه ملامح إطار اعتمادي عالمي شفاف وملتزم بمعايير الأمان الأكاديمي
ويشهد اليوم الثاني كذلك جلسة لافتة بعنوان "سيدرز-سايناي: الصحة بلا حدود"، بمشاركة الأستاذ هيثم حسون ونهى حشاش من سيدرز-سايناي إنترناشونال، ونيكولوز كوباخيدزه مؤسس مبادرة "ذا كروس رودز"، بإدارة الأستاذ أمجد الأحمد، مدير التسويق الدولي في هيئة التخصصات الصحية. حيث يناقش المتحدثون أولويات القوى العاملة الصحية، ويستعرضون نماذج ناجحة من برامج رفع الكفاءة والشراكات التدريبية العابرة للحدود، مع إبراز سبل بناء قوة صحية عالمية مرنة ومؤهلة قادرة على خدمة المجتمعات في مختلف أنحاء العالم
اليوم الثالث: الاعتماد المهني والابتكار الرقمي في صدارة الأجندة
تتواصل فعاليات الحدث في يومه الثالث بجدول حافل يناقش مستقبل الممارسين الصحيين في ظل تحديات متسارعة. يفتتح أحمد الشمراني، الرئيس التنفيذي للأكاديمية الصحية، الجلسات بكلمة ترحيبية، تليها محادثة يقودها الأستاذ أمجد الأحمد بمشاركة ستيف غاردنر حول النقص المتوقع في القوى العاملة الصحية، والهجرة غير المستدامة، والحاجة الملحّة لتوسيع برامج التدريب والاعتراف بالمؤهلات عبر الحدود
ويشهد اليوم جلسة موسعة بعنوان "مسارات التدريب والتنقل العالمي" بمشاركة خبراء من منظمات دولية مثل "كير" ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث يستعرضون حلولاً عملية لجذب الكفاءات وضمان الاعتراف العالمي بمهاراتهم. كما تقدم أماندا جلاسمان من مجموعة البنك الأميركي للتنمية رؤى حول استثمار الخبرات المكتسبة في الخارج والابتكار الرقمي لدعم الجيل الجديد من الممارسين الصحيين
وفي فقرة مخصصة لمشاركة قادة من منظمات صحية في أفريقيا، تُطرح قضية الابتكار في تنظيم القوى الصحية، تليها جلسات تناقش التدريب الرقمي والتقنيات الحديثة التي تقدمها شركات عالمية. وتختتم الدكتورة جيتا نايار، الكاتبة والطبيبة الأميركية، بمقابلة خاصة تتناول دور الذكاء الاصطناعي في التعليم الطبي، فيما تستعرض ديمة اليحيى، الأمينة العامة لمنظمة التعاون الرقمي، كيف يمكن للاقتصاد الرقمي أن يسهم في توسيع الوصول إلى الخدمات الصحية
ويُختتم اليوم الثالث بكلمة للدكتور محمد الرسي، الرئيس التنفيذي للتطوير والتميز المؤسسي في هيئة التخصصات الصحية، يلخص فيها أبرز ما نوقش في اليوم الأخير من المؤتمر