الألم: التعريف والاكتشافات الأولى
تعرف الرابطة الدولية لدراسة الألم هذا الشعور بأنه تجربة حسية وعاطفية غير سارة مرتبطة، أو تُشبه تلك المرتبطة، بتلف فعلي أو مُحتمل في الأنسجة
بمعنى أوضح، الألم ليس مجرد إحساس جسدي، بل يشمل أيضًا بُعدًا عاطفيًا من المعاناة أو الضيق، في الواقع، وجد علماء الأعصاب أن مناطق الدماغ التي ينشطها الألم الجسدي تتداخل مع مناطق الألم العاطفي. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الشعور بألم الرفض الاجتماعي أو الحزن إلى تحفيز مناطق الدماغ نفسها التي تنشط أثناء الألم الجسدي
لقد جلبت الثورة العلمية في القرن السابع عشر نقطة تحول رئيسة في التفكير في الألم، وكان أحد التطورات المهمة في منتصف القرن الثامن عشر هو الطبيب السويسري ألبريشت فون هالر، الذي أثبت أن الأعصاب وحدها هي التي تُنتج الإحساس بالألم، وأن العضو لا يشعر بالألم إلا إذا كان متصلاً بالدماغ عن طريق الأعصاب
كان هذا إنجازًا كبيرًا، فقد ربط الألم ارتباطًا وثيقًا بالجهاز العصبي، وبحلول عام 1800، عرف الأطباء الألم على أنه إحساس تنقله الأعصاب إلى الدماغ. وأدى التقدم في مجالي الميكروسكوبيا وعلم وظائف الأعضاء إلى اكتشاف مستقبلات وألياف عصبية متخصصة
في الفترة نفسها تقريبًا، تغير عالم الطب جذريًا مع ظهور التخدير والمسكنات، حيث اكتشف الجراحون الأثير والكلوروفورم، وتمكَّن الكيميائيون من عزل المورفين من الأفيون، ثم اخترعوا الأسبرين لاحقًا
أثبتت هذه الابتكارات إمكانية تخفيف الألم أو القضاء عليه بواسطة الأدوية، وهي فكرة كانت ثورية في وقتها، حفزت عليها الحاجة المُلِحَّة خلال الحروب وتزايد الطلب على الجراحة، ومن ثم استخدم التخدير في منتصف القرن التاسع عشر
------------------------
مؤشر الألم في الممارسة الصحية
يُعد "مؤشر الألم" إحدى الأدوات السريرية الأساسية التي طوّرها الطب الحديث لمساعدة المرضى على التعبير عن شدة الألم بطريقة يمكن للفريق الصحي التعامل معها بفعالية. فالألم، بطبيعته، تجربة ذاتية لا يمكن قياسها بأجهزة أو تحاليل مخبرية، وإنما يُقدَّر استنادًا إلى ما يبلّغ عنه المريض. ومن هنا جاءت الحاجة إلى وسيلة معيارية لتقدير شدة الألم ومتابعة تغيره بمرور الوقت، فتم اعتماد المقياس العددي للألم، الذي يُطلب فيه من المريض تقييم ألمه على مقياس من 0 إلى 10، حيث تشير "0" إلى غياب الألم، و"10" إلى أقصى ألم يمكن تصوّره
تطوّر هذا المؤشر تدريجيًا خلال الخمسين سنة الماضية، ضمن جهود متزايدة لتحسين فهم العلاقة بين المريض ومقدّم الرعاية. وقد ساهمت في هذا التحول شخصيات بارزة في مجال طب الألم والرعاية التلطيفية، من أبرزهم الأخصائية التمريضية الأمريكية مكلين بوك، هذا التوجه شكّل أساسًا لتطوير مقاييس أخرى مكمّلة، مثل المقياس البصري التناظري، ومقياس الوجوه التعبيرية المخصص للأطفال أو المرضى غير القادرين على التعبير اللفظي
اليوم، تُعد مقاييس الألم جزءًا لا يتجزأ من التقييم السريري الروتيني، وقد تم إدراجها ضمن "العلامات الحيوية الخمس" في العديد من النماذج السريرية، إلى جانب الحرارة، والنبض، وضغط الدم، والتنفس. إن استخدام مؤشر الألم لا يقتصر على تسجيل رقم، بل يعكس تحولًا جوهريًا في الممارسة الطبية: الاعتراف بخبرة المريض الذاتية، واعتبار صوته جزءًا أساسيًا من اتخاذ القرار العلاجي
----------------
الألم يُغير شكل الدماغ وبنيته
تبين للعلماء أن الألم يمكن أن يُغير كيمياء الدماغ وبنيته، بل ووجدت دراسة لافتة للنظر أُجريت عام 2019 أن الأشخاص الذين يعانون من ألم مزمن لديهم مستويات منخفضة من الناقل العصبي "الغلوتامات" في قشرة الفص الجبهي من الدماغ، وهو تغيير يرتبط بظهور سمات شخصية أكثر سلبية (مثل التشاؤم والخوف) لدى هؤلاء الأفراد
بمعنى آخر، يمكن للألم المزمن أن يُغير الدماغ، وينتشر الألم المزمن بشكل كبير، فوفقًا لبعض التقديرات، يُعاني واحد من كل خمسة بالغين حول العالم من ألم مزمن. في الواقع، سيخبرك أي شخص عانى من ألم طويل الأمد إنه يُغيرُك. بل ويمكن للألم، وخاصةً الألم المزمن، أن يُغير مزاج الشخص وسلوكه وعلاقاته
مع الألم، غالبًا ما يُعدِّل الناس نمط حياتهم، وقد يتخلون عن هواياتهم، أو يتجنبون النزهات الاجتماعية، أو يصبحون أكثر خمولًا خوفًا من تفاقم الألم. ويمكن لهذه التكيفات أن تُضعف تدريجيًا جوانب من شخصيتهم. قد يصبح الشخص المغامر والمنفتح حذرًا ومنعزلًا
-------------------
علاجات جديدة في المستقبل
حاليًا يتجه البحث العلمي نحو علاجات بديلة أكثر أمانًا ودقة للألم، منها المسكنات غير الأفيونية، وهي مركَّبات تستهدف مستقبلات الألم في الأعصاب دون التأثير على الدماغ أو التسبب في الإدمان، كما ظهر العلاج الجيني، حيث يُختبر استخدام تقنية كريسبر لتعطيل الجينات التي تسبب فرط الاستجابة للألم في بعض الحالات الوراثية. وفي المستقبل، قد يُعالَج الألم المزمن من جذوره الجينية بدل الاكتفاء بالمسكنات
وإلى جانب ذلك، بدأت الأبحاث على الأجسام المضادة المصممة خصيصًا لإيقاف إشارات الألم في حالات محددة؛ مثل التهاب الأعصاب السكري أو ألم السرطان
والواقع أن واحدة من أكثر الطرق إثارة هي استخدام الواقع الافتراضي لتشتيت الدماغ عن الألم. ففي دراسات عديدة، وُجد أن غمر المريض في بيئة افتراضية مهدِّئة يمكن أن يخفف الألم حتى بنسبة 50% أثناء إجراءات مؤلمة؛ وتُختبر الآن أنظمة واقع افتراضي منزلية للسيطرة على الألم المزمن من خلال إعادة تدريب الدماغ على تجاهل الإشارات المؤلمة